رحل سميح القاسم.. والحزن لا يعيد الراحلين!.. بقلم: شادي العمر

رحل سميح القاسم.. والحزن لا يعيد الراحلين!.. بقلم: شادي العمر

تحليل وآراء

الخميس، ٢٨ أغسطس ٢٠١٤

وقيل في تاريخ العرب قبل الإسلام أنّه إذا وُلد في قبيلة من القبائل شاعر أذاعوا الخبر بين القبائل الأخرى، وأقام أهلها الأفراح ونحروا الإبل وضربوا بالدف وغنّت المغنيات سبع ليال. ولم يعودوا يخشوا القبائل الأخرى التي قد تعاديهم فتتفوق عليهم بشعرائها.
أما حين يموت الشاعر فليس كموت سواه، إذ إن كل ميت يُخلف إلا الشاعر، فهو فذ في مولده وفذ في وفاته، لا يورث رئاسة ولا مالاً ولا نسباً، لذلك يكون خسارة لا تعوض ولا تستبدل ولا يسلو عنها أحد.
والحزن على الشعراء حين يموتون حزن نبيل يلزم الحزانى بالهيبة والسمو أمام رهبة الموت وقداسة الشعر وعِظم الفقد.
مات الأسبوع المنصرم سميح القاسم، أحد أهم شعراء العربية وفلسطين، وهو غني عن هذا التعريف وعن أي تعريف غيره. فأي معنى لموته بين كل هذا الموت الذي تجتاح رياحه العراق والشام وفلسطين؟! ألا يبدو الحزن لأجله ترفاً مخجلاً والآلاف يموتون من أطفال ونساء وشيوخ ورجال عزل!
مات القاسم في المشفى على سريره بعد أن استنفذ وأطباؤه كل لحظة كان يمكن أن يعيشها، بينما يموت الآخرون قتلاً وسحلاً وصلباً وبتراً وتعذيباً وتجويعاً مثلهم مثل ثمار تسحق قبل أوانها، فتموت معهم أحلامهم وآمالهم والذكريات التي كانت معدة لهم كي يكتبوها في دفاتر حياتهم التي مُزّقت في لحظة لمرة واحدة وأخيرة.
عندما يكثر الموت وتشتد رياحه فنحن لا نحزن لأجل فلان أو فلان ممن ماتوا، ما يذهلنا بالحزن حقاً هو حجم هذا الموت الذي يستوطن حياتنا حينها ونحن لم نزل أحياء. ويقتلنا إحساسنا بالضعف والعجز واللاجدوى، ناهيك عن الشعور القاتل بالذنب، وهو شعور غير مبرر أبداً ولكن لا يمكن الخلاص منه في الوقت ذاته.
هذا الحزن من فداحة الموت الكثير وقسوته ووقاحة أدواته وعمى بصيرته لا يمكن أن يكون حزناً نبيلاً أبداً، هو حزن يجرح الكبرياء ويخدش الروح ويحبس الدموع.. ولا يليق بالشعر ولا بالشاعر.
مات القاسم وهو يستحق منا حزناً استثنائياً، ملوناً بالأبيض المزرقّ كلون سماء صيفية، لا يشبه الألوان الحمراء والسوداء التي ينشرها الموت حولنا منذ سنوات، مات الشاعر بعد أن تطهر من كل الأيديولوجيات والمعتقدات والشوفينيات والأحزاب التي تستقدم الموت للإنسان قبل أن يفرغ هو من حياته ليقصده مقبلاً غير مدبر ولا مبكر. مات من لا يحب الموت لكنه لا يخافه، ولأنّه لا يحب الموت فقد عاش ضد ثقافة الموت، ليموت منتصراً للحياة وللإنسان وللفرح، رافضاً أن يخسر الإنسان حياته لأجل أي قضية، إذ لا قضية تستحق ذلك إذا لم تكن هي الحياة ذاتها. مات من قال:
يشاؤك صمتك: وعدا
يشاؤك صوتك: رعدا
يشاؤك وجهك: نورا
يشاؤك روحك: ليلا
يشاؤك ورد الحديقة: طلعا
يشاؤك كهف الجبال: صديقا
يشاؤك سخط البراكين: صنوا
يشاؤك قلبك: سهلا
تشاؤك زيتونة الدهر: حلما
تشاؤك سنبلة الحب: حقلا
يشاؤك قلب التراب: شهيدا
يشاؤك أهلك: عيدا
وماذا تشاء سوى ضجعة الموت حرّاً طليقا
حزيناً. أشد من الموت حزنا
أشد من الماء والموت حزنا؟"  ... (من قصيدة أشد من الموت حزنا)

مات سميح القاسم، وكان له ما كان يشاء لنفسه. مات لأجله لا لأجل شيء، فلنحزن عليه لأجلنا.