فك الاشتباك، من هدنة الجولان الى "انكفاءة" مطار الطبقة

فك الاشتباك، من هدنة الجولان الى "انكفاءة" مطار الطبقة

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٦ أغسطس ٢٠١٤

 كثُر الحديث في اليومين الماضيين حول ملابسات ما جرى في مطار الطبقة في الرقة السورية، وغصّت التحليلات في أسباب "سقوطه" المستغربة وأبعادها على الحرب والمواجهة بين الدولة السورية والإرهابيين، وبين التشاؤم والتفاؤل، والتبرير وإلقاء اللوم، والنظريات التكتيكية والاستراتيجية، وقع الرأي العام في حيرةٍ وتخبّط، وبات يخشى من تداعيات ما جرى على الصراع القائم سيّما وأنه أمام مشهدين متناقضين: الأول يؤكد تقدم الجيش السوري واستعادته زمام المبادرة في غير مكان، والثاني تنامي قوة داعش وسيطرتها أيضاً في أكثر من مكان. فبات التحليل يخضع لمقارباتٍ متشابكةٍ ومعقدة، منها ما يفرج الأساسير ومنها ما يدعو الى التوجّس والقنوط وحبس الأنفاس.
ولكن، ما حقيقة ما جرى في مطار الطبقة؟ سقوط المطار أم انكفاء الجيش عنه؟ وما أبعاد ما حصل في الحالتين؟ وكيف للمطار أن يسقط وهو تحت السيطرة النارية الجوية المباشرة وطبيعته الجغرافية المكشوفة ليست في صالح المهاجمين؟ والسؤال الأهم وهو المدخل لفهم ما جرى: لماذا ركزت الآلة الإعلامية العسكرية على بدء عملية تحرير الرقة  في الأسابيع الأخيرة والترويج لأهمية ما يجري في المطار ومحيطه من ناحية الاستراتيجية؟
ولفكّ طلاسم ما جرى علينا أن ندخل في العقل الاستراتيجي العسكري وفي فهم مسار التكتيكات المتّبعة في المواجهة منذ بداية الحرب السورية الى اليوم، وإذا تعمقنا أكثر في سبر غور هذا العقل، لأخذنا الى الخيارات الاستراتيجية الكبرى التي يتبعها منذ بداية الصراع السوري- الصهيوني، وصولًا الى نقطة التحوّل في هذا الصراع عام 1973، والتي رسمت مساراً جديداً في مقاربة المواجهة مع "إسرائيل" عبر الانتقال من الحرب التماثلية (جندي بمواجهة جندي ودبابة بمواجهة دبابة وطائرة بمواجهة طائرة) الى الحرب اللاتماثلية، والتي كرّسها الرئيس الراحل حافظ الأسد عبر تكراره لجملته الشهيرة: "نحن مع السلام العادل والشامل بمندرجات القرارات الدولية ذات الصلة: 338، 242، 194، و425"، أي أنّ جبهة المواجهة ليست فقط مرتفات الجولان المكشوفة والقريبة من دمشق، بل كلّ الخطّ الممتد من غزة الى أخر نقطةٍ في الناقورة في جنوب لبنان، بمعنىً آخر، هو نقل الحرب الى المكان والنطاق الجغرافي الذي يسمح له بتحقيق النصر، تماماً كما فعل القائد العسكري التاريخي، الظاهر بيبرس في معركة عين جالوت ليحقق النصر على التتار المتفوقين عدداً وعدّةً، فكان نصر 2000 تحرير الجنوب و2006 "ضرب أسطورة الجيش الإسرائيلي" و2008 "تحرير غزة".
وقبل أن ندخل الى المقاربة بين خيار هدنة الـ1973 وبين ما جرى في الطبقة، علينا أن نسأل سؤالاً جوهرياً: اذا كان الجيش السوري قد حقق إنجازاً ونصراً مبيناً في حرب 1973 على العدو الصهيوني، لماذا يعطي العدو هدنة "فكّ الاشتباك" التي وقعها وهو المنتصر؟ هل لأنه كان يدرك أنّ الاستمرار واستكمال الحرب سيجرّه الى مواجهةٍ أكبر مع حلفاء الكيان الصهيوني فنكون أمام نكسة 67 أخرى، قد تطيح بالمنجزات والمكتسبات وتقلب الموازين؟ وهل أدرك أنّ الاستمرار في الحرب الكلاسيكية هو ضربٌ من الجنون في ظلّ قرب دمشق من الجولان وطبيعة الأراضي الجولانية المكشوفة، وتخاذل العربان وتآمرهم والدعم المطلق لـ"إسرائيل" من الغرب، ولذلك هو بحاجةٍ ماسةٍ الى هدنةٍ تحافظ على المكتسبات وتسمح بالتحضير لتكتيكٍ جديدٍ يعتمد أساليب الحرب اللاتماثلية؟ لعلّ في الإجابة أيضاً، ردٌ على من يتّهمون سوريا بتخاذلها عن فتح جبهة الجولان منذ 1973، وجلّهم يريد توريط سوريا في حربٍ تماثليةٍ لأهداف وضيعةٍ وليس غيرةً على الجولان وأهله، وهذا مبحثٌ آخر نناقشه لاحقاً في مقالٍ مستقلّ.
إذاً، نستطيع أن نفهم أنّ الدولة السورية أعطت للصهيوني هدنةً كي تحضّر الظروف لتغيير قواعد اللعبة، مما يتيح لها استكمال عملية المواجهة بشكلٍ يحقّق النصر النهائي الذي لا لبث فيه.
وبالعودة الى الداخل السوري، فإنّ خيارات الحكومة السورية والجيش السوري منذ بداية الأزمة، وخصوصاً بعد تيقّنها من أنّ طبيعة الحرب المفتعلة في سوريا لم تكن "ربيع الحرية"، بل هي حربٌ كونيةٌ لكسر العقدة الأساس في سلسلة الممانعة، كانت خيارات مبنية على قناعة أنّ المواجهة طويلةٌ وكبيرةٌ جداً، ويمكن أن تمتد لسنوات، وستطال كلّ الأراضي السورية، وإذا اعتبرنا أنّ كلّ 10 جنود سوريين سيحمون كيلومتراً واحداً، فنحن بحاجةٍ الى قرابة المليوني جندي، لذلك ذهبت القيادة الى تطبيق النموذج الجزائري في مقاربة المواجهة، فالجزائر التي خاضت المواجهة مع الإرهاب في تسعينيات القرن الماضي وما زالت، حاولت الحفاظ على المدن الرئيسية وتأمينها من الهجمات وبسط سيطرة الدولة والقانون وتعزيز الأمان فيها، وواجهت الإرهاب في الصحاري المفتوحة والمناطق المقفرة والشاسعة. وهذا بالظبط ما جرى ويجري في سوريا، حيث أنّ أكثر من ثمانين بالمئة من الشعب السوري الآن في المدن الرئيسية والساحل، وحيث أنّ الدولة في أولوياتها العسكرية تحاول أن تعزّز الأمن في المدن وأريافها وأغواطها على مدى السنوات الثلاث الماضية، فتضمن بقاء الدولة والكيان، وهي باتت قاب قوسين أو أدنى من إنهاء معركة حلب لتكتمل السلسلة، وفي المقابل مناطق سيطرة الإرهاب مع إقليةٍ سكانيةٍ متعاطفةٍ ومتورطة على امتدادٍ مفتوحٍ في شرق وشمال سوريا باستثناء بعض البؤر المؤيدة للنظام هنا وهناك، وباستثناء الحالة الكردية والتي تشكّل حلقة وصلٍ وارتباطٍ مع الحكومة في المواجهة القائمة. وهذا هو مكمن السر الذي مكّن النظام من الصمود وعدم السقوط والانهيار.
لعلّ هذا الشرح يجيب على تساؤلات البعض حول أولويات الدولة السورية في المواجهة، وحول السؤال عن عدم تحرير بعض المناطق وتركها وتركيز الجهد والكتلة النارية على مناطق أخرى.  ويجيب هذا الشرح أيضاً على ما حصل في مطار الطبقة، والتكيتيك الذي اعتمد في تعويم أهمية المنطقة وفي الإيحاء بأنّ معركة الرقة بدأت، في سياق الانتقال من المعادلة التي كانت تفرض على الجيش السوري الانتشار والتوزّع وتشتيت القوى في كلّ شبرٍ من الأراضي السورية فيسهل استهدافها واستنزافها، الى التجمع وحضانة وحماية السوريين في المدن، وفرض التوسع والتشتّت للإرهابيين لحماية وحراسة نقاطهم العديدة فيسهل ضربهم والقضاء عليهم وهم مبعثرون على قاعدة "مد الأفعى ليسهل تقطيعها".
لا شكّ أنّ هناك أثمانًا يدفعها الجيش السوري والمواطن السوري البريئ لتحقيق أهداف المواجهة التي تضمن النصر الأكيد، ولا شكّ أيضاً أنّ خيارات القيادة العسكرية والسياسية التي استطاعت أن تصمد لأربع سنوات في أشرس حربٍ في التاريخ المعاصر، تؤكد يومًا بعد يومٍ صوابيتها، وعمق رؤيتها وتقدريها. وإلا لكنا اليوم نتشارك مع الليبيين مسلسلهم الدموي اليومي في ظلّ ضياع ليبيا، دولةً وأرضًا وكيانًا ومؤسسات.
والجدير بالذكر هنا، أنّ سورية تقاتل كمنظومةٍ وليس كنظام، وأنه في سياق المنظومة، ليس لها إلا أن تنتصر، فهو قدرها الذي سُخّرت لأجله كلّ الإمكانات، وكلّ الدعم، وسيأتي الوقت لإماطة اللثام عن أسرار الحرب وخفاياها، ليعلم السوري، وكلّ ممانع، أية معركةٍ خاض، وأي نصرٍ مجيدٍ... انتصر.