رياح مدن الملح.. بقلم: د. أشواق أيوب عباس

رياح مدن الملح.. بقلم: د. أشواق أيوب عباس

تحليل وآراء

الاثنين، ١٨ أغسطس ٢٠١٤

يُقال إن الأزمات حين تعصف، تكشف معادن الشعوب وجوهرها، فإما أن يزيد حريقها وشدة استعار نيرانها تلك المعادن لمعاناً، وإما أن يصهرها ويذهب بها إلى الذوبان والتلاشي. أستعيد هذه المقولة مراراً في رأسي منذ هبوب رياح الخماسين "العربية-الغربية" على المنطقة، مترافقة بما يسمى "الربيع العربي"، والذي لم يحمل من اسمه شيئاً.
رياح الخماسين المعروفة عند العرب بمسميات عديدة تدل كلها على الخراب والدمار، ولعل أبرزها مسمى رياح السموم (وأعتقد أنها التسمية الأكثر مناسبة في هذا الصدد)، والتي تُقرن عادة بهبوبها من الصحراء إلى المدن محملةً بالرمال التي تُغشي العيون، وتمنع الرؤية. فيصبح الناظر خلالها أشبه بالأعمى غير القادر على فتح عينيه حتى انتهاء العاصفة.
ينطبق هذا الحال على الواقع العربي في ظل ما أطلق عليه البعض من تسميات "الربيع العربي". ربيع أشبه برياح أعمت عقول الكثيرين، وأغشت على أبصارهم، فأصبحوا غير قادرين على معاينة الواقع، يقودهم اتجاه الرياح حيث يشاء ويرغب. اللافت في الأمر، أن الرياح تهب، كما هو الحال في الطبيعة، من الصحراء، لكنها هذه المرة تأتي من واحات الصحراء التي تعتقد أنها باتت تشكل منازعاً نداً للحواضر العربية الكبرى. فالنفط جعل منها (كما قال عبد الرحمن منيف) مدناً لكن من ملح، فتوهم أصحابها أن أساسهم اسمنت مسلح! وأنهم باتوا قادرين على مقارعة تلك الحواضر، وتدميرها عبر رياح السموم المحملة هذه المرة ذرات الرصاص والملح. الرصاص القادم من الغرب، والملح القادم من صحراء الحضارة والعقل الخاويين.
رياح السموم التي انطلقت لتحيل الحواضر العربية الكبرى إلى خراب، أشبه بصحراء عقول من أرسلها، كانت أينما تحل، يحل الدمار والموت، واستلاب بصيرة من يشهد هبوبها، أو تمتلئ عينيه بذرات رصاصها أو ملحها أو حتى ترابها. فيغمض     عينيه ليضيع مؤشر البوصلة، وتتداخل الاتجاهات. فتغدو الواحات الوهمية في الصحراء حواضر قائمة بحد ذاتها، في ظل خراب ودمار الحواضر الحقيقية.
أعود هنا للعبارة الأولى في هذا النص، ومن خلالها استطيع التمييز بين صاحب نظر يعتمد على عينيه لمعاينة الواقع، وبين صاحب بصر وبصيرة يمتلك من القدرة على قراءة الواقع ما يفوق حاسة البصر فقط. وهنا تحديداً أتحدث عن دمشق الحاضرة التي تحطمت على جدرانها رياح السموم، لتنكسر معلنةً أن المدن الراسخة في التاريخ والحضارة والعقلانية السياسية أقوى من واحات ظهرت فجأة، سيجف ماؤها يوماً مهما كثر. فلا يوجد تحت مائها إلا طبقات من الملح المجدب.
إن الحرب التي خاضتها دمشق وحيدة في وجه رياح السموم، ورغم تعقد وتداخل مستوياتها العربية والخارجية، ورغم حجم الدمار الذي لحق هنا أو هناك، إن هذه الحرب تكتسب أهميتها من فكرتين. الأولى أن العقل السوري غير قابل للتصحر، فهو خصب متجدد وإن مرَّت عليه فترات من الجدب، لكنه يمتلك القدرة على النهوض والنمو معافى من جديد. أما الثانية فإن السد الطبيعي والبشري الذي وقف في وجه رياح السموم الآتية من واحات الصحراء مدفوعة بالآلة الأميركية والغربية، حال دون انتشار التصحر الفكري والمادي على بقية الدول العربية. من هنا كانت بداية هذا النص: أن الأزمات حين تعصف تكشف معادن الشعوب وجوهرها، ومعدن السوريين أساسه الخصب والحياة.