سؤال برسم السوريين... هل كنتم سعداء دون أن تدروا؟

سؤال برسم السوريين... هل كنتم سعداء دون أن تدروا؟

تحليل وآراء

الأربعاء، ٦ أغسطس ٢٠١٤

 «أنا سعيد».. جملة يندر أن تسمعها ممن حولك، ولعل من كان كذلك تجنب التصريح خوفا من الحسد كما هو متعارف عليه في ثقافتنا الشرقية، وأي سعادة تلك التي لا نستطيع التعبير عنها؟!!
قد يقول البعض.. في ظروف كتلك التي نعيشها اليوم أنى لنا أن نشعر بالسعادة؟! لكن هل كان هناك من يعبر عنها قبلا؟! ألم نكن نسمع الكثير من التذمر والتململ والشكوى، أم إن السعادة هي في ماض بات جميلا لأنه غادرنا، وربما في مستقبل نعتقده أجمل لأننا نحلم به وننتظره، وكأنه من المستحيل أن نمسك بها في اللحظة التي نحياها.
وإذا كانت السعادة هي الشيء الوحيد الذي يتفق جميع الناس في البحث عنه، إلا أنهم لا يتفقون على ماهيته، بل إن مفهومها أكثر ما حير الفلاسفة والحكماء وأكثر ما قيل فيه من نظريات وتوصيات، فأفلاطون رأى أنها تكمن في اتباع الفضيلة، في حين ربطها أرسطو بالخير الأعلى ووحد بينهما، كما اعتبر أن التأمل العقلي أحد القواعد الأساسية للحصول على السعادة، وجعل اللذة شرطاً ضرورياً لها لا كافيا فقط، فيما اعتبر أبيقور اللذة غاية الحياة، وإن كان يصنف اللذات، ومع تأكيدهم أن طريقها محفوف بالألم فإن الرواقيين يرجعون السعادة إلى الفعل الموافق للعقل، فيعتبرون قدرة الإنسان في الحكم على أفعاله من شأنها أن تجعله سعيدا.
لا جدل في أن السعادة من المستحيل أن تخضع لقواعد أو ضوابط معينة، فبينما يجد البعض سعادته في المال وآخرون في النجاح والشهرة وغيرهم في الحب، أو الصحة، وربما في الرضا أو القناعة، فإن أسباب السعادة تبقى أكثر من أن تحصى ومع ذلك ندر أن تجد السعداء، بل إن الكثيرين حين تسألهم عن حالهم يشتكون إما من تعاستهم أو سوء حظهم وفي أحسن الأحوال يحمدون اللـه مع تنهيدة لسان حالها يخبرك بمدى يأسهم.
على أن جميع النظريات التي بحثت في السعادة صحيحة، فالخير يوافق الطبيعة الإنسانية، وحين ترسم البسمة على وجوه الآخرين وتكون سببا في أن يسعدوا ينتابك شعور السعادة، كما أن قدرتك على التفكير السليم والحكيم بما يساعدك على حل مشكلاتك مهما كبرت سبب لسعادتك، وتوافق أفعالك مع اعتقاداتك وإيمانك أيا كان سبب أيضاً بما يتيحه من تصالح مع الذات نصبو إليه جميعاً فيعطينا الإحساس بالراحة والسعادة المنشودة أيا كان حالنا، وعلى مقياس التصالح الذاتي يخلق كل سعادته وفق ما تحققه له من رضا يوافق طباعه سواء كانت خيرة أم سيئة، وليس غريبا أن هناك من تنبع سعادته من إيذاء الآخرين وتعذيبهم، وإرضاء شعوره بالسادية والسطوة المتوافق مع طبعه الاستبدادي.
ولعل اللذة أو المتعة هي أكثر ما اتفق الفلاسفة على قدرتها في جلب السعادة، لكنهم اختلفوا في تعريفها وتحديد خطوطها العريضة، وربما يكون سبب ذلك اختلاف لذة كل منا ومكامنها، ولك أن تتخيل أن البعض يجد لذته في الألم، حتى إن هناك من الفلاسفة من اعتبر الألم نفسه هو اللذة حال الفيلسوف «أرستبس» حفيد سقراط الذي كان يحاول التألم من أجل الحصول عليها.
أكثر من ذلك هناك تيار يعتبر الموت أيضاً لذة، كالمتصوفين الذين يعتبرون أن خروج الروح من الجسد يجعله في حالة راحة لأنه - برأيهم- الأصل والروح ثانوية، وهي حين تسكنه تسبب له آلاماً لا يرتاح منها إلا إذا خرجت منه، وهكذا يصبح الموت لذة تحقق السعادة، وتلك أحد وجهات نظر الفلسفة النرفانية التي بحثت عميقا في الوصول إلى السعادة.
وحين تقرأ قول الفيلسوف الألماني نيتشه أن السعادة هي «سعادة الراحة وعدم الانزعاج، وحالة تخمة الإشباع، والوصول إلى حالة من الوحدة»، معتبرا تصادم الرغبات أمراً جيداً، ومعارضا فهم أفلاطون الذي يقرن بين الانسجام والسعادة، تدرك بشكل أعمق كيف يصنع كل منا سعادته بنفسه، فما يسعدني ليس بالضرورة أن يسعدك، وقد تسعد المرأة لأمر لا يسعد الرجل، والطفل لأمر لا يسعد الكبير، وهكذا دواليك.
مرات كثيرة قرأت كتبا وقصائد وعبارات وأمنيات فحواها لو يعود عمر الطفولة باعتباره أسعد الأيام، لكن هل الأمر كذلك فعلاً؟! ألم يكن كثير منا في طفولته يشتكي من أن أهله لا يفهمونه، وقد يبكي للعبة أو رحلة أو ميزة حصل عليها صديقه ولم تتح له، وقد يكتئب لعقاب لا يتجاوز حزنه حرماناً من المصروف أو مشاهدة التلفاز معتقدا أن ذلك أسوأ ما يمكن أن يحصل له، ألم نكن نعتقد أننا حين نكبر سنكون سعداء، ثم اكتشفنا أن المسألة ليست بهذه السهولة، وأنها تتطلب قدرا كبيراً من الفهم والتقبل والتكيف والصبر والرضا والقناعة والحكمة.
ثمة من يظن أن الأطفال سعداء، لكنهم ليسوا كذلك جميعاً، واليوم توشك الطفولة في كثير من بلداننا أن تطوي ابتساماتها البريئة أمام واقع حرمانها وتعرضها للأذى والاضطهاد وانتهاك حقوقها، وفقدانها أبسط أساليب السعادة، وأذكر عبارة لأحد الأصدقاء قال فيها: «لو امتلكت قبل عشر سنوات الحكمة التي أملكها اليوم لعشت ما بقي من عمري سعيدا»، ولعله كلام يفيد بأن المسألة مرتبطة بمقدار فهم الحياة واختبارها وتجاوزها، لا بالطفولة أو المراهقة أو الكهولة..
من مقولات أرسطو: «لا تقل عن شخص أنه سعيد حتى يموت»، وفي هذا تبدو السعادة مستحيلة التحقيق، أو ربما أراد القول إن الشعور بالسعادة مسألة ذاتية، فأنا وحدي من أقرر إذا ما كنت سعيدا أم لا، ولا يمكن لمن حولي أن يقيموا ذلك، وقد يكون أرسطو قصد بعبارته أن الإنسان تكثر أهدافه في الحياة والتي قد تتضارب بين ما يقبله عقله ويرفضه قلبه والعكس صحيح، ثم تنتهي به الحياة إلى أن يموت دون تحقيقها جميعاً أو على الأقل المواءمة بينها، وتصبح سعادته في الراحة من هذا العناء.
على مستوى الشعوب، المسألة مختلفة، ففي تقرير صادر عن معهد ليجاتوم البحثي تم إجراؤه على 142 دولة حول تصنيف الشعوب الأكثر سعادة على مستوى العالم، استند التقرير في تحديد التراتبية إلى عوامل أهمها؛ توافر الأمن والرخاء الاقتصادي، ارتفاع مستوى التعليم والصحة، والحرية الشخصية، وحين انتقل لترتيب الدول الأكثر تعاسة كانت الحروب والفقر المعيار الأساسي في تصنيفها.
من الواضح تماما ما تلعبه مسألة الأمن من دور في إحساس الشعوب بالسعادة ولعل هذا ما يحمل الكثيرين في سورية على عدم الشعور بها وبالرضا اليوم، أو ربما كانت السعادة شيء لا يمكن نيله بسهولة، وقد يكون كثيرون منا يمتلكونها وهم لا يعلمون، إذ نبدأ بالإحساس بقيمة الأشياء حين نفقدها، والسوريون يشعرون أنهم كانوا سعداء بعد أن فقدوا الأمن وساد في بلادهم العنف والتشرد والفقر وتراجع التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية وانحدر مستوى المعيشة وغلت الأسعار وطالت قائمة أسباب انتفاء سعادتهم.. ولم يعد لهم من طبيب سوى الزمن والأمل..
يقول محمود درويش..
يا للزمن! طبيب العاطفيين... كيف يُحوِّل
الجرح ندبة، ويحوِّل الندبة حبَّة سمسم
أنظر إلى الوراء، فأراني أركض تحت المطر
هنا، وهنا، وهنا
هل كنتُ سعيداً دون أن أدري؟
إنه سؤال لنا جميعاً.. هل نحن سعداء ولسنا ندري؟!! إذا كنا كذلك فلنمسك بتلابيب حاضرنا قبل أن يأتي يوم تغص فيه قلوبنا وعيوننا معلقة بالوراء.