فلسطين، الجرف العائم... على بحر دماء

فلسطين، الجرف العائم... على بحر دماء

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٢ يوليو ٢٠١٤

 "إن سألوك عن غزة، فقل ﻟﻬﻢ: إنّ ﺑﻬﺎ ﺷﻬﻴﺪ، ﻳُﺴﻌﻔﻪ ﺷﻬﻴﺪ، ﻭﻳُﺼﻮّﺭﻩ ﺷﻬﻴﺪ، ﻭﻳُﻮﺩّﻋﻪ ﺷﻬﻴﺪ، ﻭﻳُﺼﻠّﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﺷﻬﻴﺪ". بهذه المشهدية الشعرية، لخّص الشاعر الفلسطيني محمود درويش حال غزة وأهلها، قديمًا وحاضرًا ومستقبلًا، وفي كلّ يومٍ يقرر فيه الكيان الصهيوني أن يتابع أداء رقصة الموت فوق أجساد الفلسطينيين الأبرياء، إلا من ذنب احتضانهم لقضيتهم في صدورهم وبين أضلعهم، ما يستوجب تمزيقها.
هي صلب العقيدة الصهيونية، أن تلجأ نحو ارتكاب المجازر الدموية وممارسة الإبادة الجماعية، في كلّ مرةٍ تفشل فيها بتحقيق مبتغاها من حربٍ أو خطةٍ تصطدم ببأس مقاومة الشعوب ورسوخ عقيدتهم، فتذهب نحو إرهاب صمودهم وزعزعة ثباتهم بدفق الدم في وجوههم، مستغلةً الخاصرة الرخوة لأي شعبٍ مقاوم... عبر استهداف مدنييه العزل.
وتعود المشهدية لتتكرر في الأذهان مرةً تلو الأخرى، منذ دير ياسين وما سبقها من مجازر ارتكبتها العصابات الصهيونية، وحتى اليوم مع ما يحصل في غزة، مرورًا بصبرا وشاتيلا ومجزرتي قانا وغيرها المئات من الارتكابات التي جعلت من الذاكرة الفلسطينية الأكثر ذخرًا بالدماء و الأشلاء، بين ذاكرة الشعوب المضطهدة في هذا العالم.
تمثل غزة اليوم مشهدًا من أبشع المشاهد الدموية الحافرة في الذاكرة، فهي المجزرة المستمرة منذ أن أعلن الحصار المطبق عليها. لم تتوقف المجازر يومًا، بحربٍ وبدونها، إلا أنّ المشهد يزداد احمرارًا اليوم، مع شلالات الدماء المنسكبة منذ أكثر من 14 يومًا يكاد لا يخلو يومٌ منها من مجزرةٍ جديدةٍ ترفع من عدد شهداء القطاع وجرحاه الذين بلغوا حتى اليوم 550 شهيد و3350 مصاب، ربعهم من الأطفال والبقية موزعين على النساء والشيوخ والمدنيين العزل، والعدد مرشحٌ للارتفاع في أية لحظةٍ تقود التطورات الصهاينة لرفع مستوى جنونهم وزيادة حفلة الدماء صخبًا.
للموت هنا طعمٌ آخر، بطعم غبار الركام والأبنية المتساقطة على أصحابها، ولونٌ آخر يمتزج بين سواد الغمام المنبعث من القذائف والصواريخ، والأحمر المنبعث من لهيب النيران ورذاذ الدم الفلسطيني المنتشر مع شظايا القذائف، أما عن الرائحة فلا تسأل، ألف مادةٍ ومادةٍ وخلطات كيميائية، تختبر بالأطفال سبل إذابة الأجساد.
14 يوماً، شهدت 13 مجزرة، بدأت مع مجزرة خان يونس التي ذهب ضحيتها 11 شهيداً، لتكرّ السبحة مع عائلة كوارع، حيث استشهد 7 فلسطينيين، بينهم 6 أطفال، كما أصيب 28 شخصًا، 10 منهم إصاباتهم خطيرة، ثم حصلت مجزرة عائلة المناصرة في التاسع من تموز حيث دمرت خلالها منازل من عائلة عابد وقديح والجاروشة، وسقط قرابة 16 شهيدًا، بينهم 3 من عائلة المناصرة. تلتها مجزرة عائلة حمد القيادي في سرايا القدس والتي استشهد خلالها 6 أفراد من عائلة حمد، ومجزرة عائلة النواصرة في مخيم المغازي، التي أدت الى استشهاد 5 بينهم طفلين، أحدهما عمره 4 سنوات وامرأة، ومجزرة استراحة بحر خان يونس التي أدت الى استشهاد 10 فلسطينيين كانوا يشاهدون مباريات كأس العالم في استراحةٍ على الشاطئ، ومجزرة عائلة الحاج في جورة العقاد غرب محافظة خان يونس، التي أسفرت عن استشهاد 8 أشخاص بينهم 4 أطفال ومجزرة آل غنام في رفح، ومجزرة حي الشيخ رضوان شمال شرق غزة، إضافةً الى مجزرة آل البطش التي أودت بحياة 18 مدنيًا، وعائلة شحيبر التي راح ضحيتها 9 أشخاص لتختتم المجازر بمجزرة حي الشجاعية، والتي تجلت فيها قمة الإجرام الصهيوني، بقصفه لحي سكني مكتظ أدى ما الى استشهاد 76 مدنيًا جلّهم من النساء والأطفال الذين لم يجدوا سوى أسقف منازلهم ملجأً لهم، فكانت الملجأ والمقتل في مدينة بات الهرب من الموت فيها.. موتاً.
قد تكون مملة الجردة التفصيلية السابقة لأسماء المجازر وعدد ضحاياها، لكن رتابة العرض السابق يندثر أمام القصص المرتبطة بكرنفال الموت اليومي، المقام فوق تراب غزة، حيث المسعف ينقذ أخيه ولا يعلم به قبل الوصول الى المستشفى، والطفلة توقذ أباها الشهيد ظنًا منها أنه نائم، والنسوة ينمن بثيابهنّ استعدادًا للتجاوب مع صاروخٍ تحذيري لا يكاد يزول دويه حتى يلحقه صاروخٌ يلحق الأشلاء بالدخان المتصاعد. قد تكون مملة لولا أنّ سيل الدماء المتدفق مع ذاك العرض، برهن على مرّ الأيام، أنه السيل الجارف لعنجهية الصهاينة وإجرامهم، وبه الموجة التي تحمل مركب الشعوب نحو شاطئ الانتصارات، التي تهون على ذاكرة فلسطين ما تحويه من الروايات الدموية، فتكون الخاتمة انتصار، تنتظره غزة غدًا، لتصب فيه شلالات الدم المتدفقة اليوم.