نقد الفن التجريدي (4 من4).. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

نقد الفن التجريدي (4 من4).. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الأربعاء، ١٦ يوليو ٢٠١٤

في مقدمة ترجمته لكتاب (ريجيس دوبريه) الموسوم بـ "حياة الصورة وموتها" يشير فريد الزاهي إلى أن مباحث الصورة في العالم العربي ما زالت تعاني الضعف والوهن نظراً إلى هيمنة اللغوي على البصري في حقل الثقافة العربية المعاصرة، وللتعقّد المنهجي الذي تفرضه مقاربات الصورة بمختلف أنواعها وأنماطها. ثم إن شاكر عبد الحميد يرى أن هناك فروقاً يقول بها العلماء والمفكرون بين الصورة الإدراكية والصورة العقلية (صور الخارج وصور الداخل) رغم ما بينها من تفاعل مستمر. ولعل أبرز هذه الفروق هو أن التفكير بالصور يتجاوز حدود الواقع المدرك اللحظي المباشر، فهو يمكن المرء من استدعاء الماضي ومعايشته كما لو كان يحدث مرة أخرى. كما يمكنه ويطوره. فالصور ترتبط بالذاكرة والخيال والإبداع والاستمتاع أيضاً.
المصورون الإسلاميون القدماء جرّدوا ولم يشّخصوا لأسباب قضت بعدم إباحة التشخيص إسلامياً. لهذا أمعنوا في الزخرفة وأفادوا من طواعية الحرف العربي فأوجدوا منه أشكالاً شتى متنوعة.
 الفنان السوري محمود حماد يوصف من كبار رواد الحداثة التجريدية في التشكيل السوري والعربي. درس الفن في أكاديمية الفنون الجميلة في (روما). لجأ في فنه إلى تيارات الحداثة التجريدية خلال عمله على اللوحة الحروفية التي كان يبنيها من مطواعية الحرف العربي وتكويناته الهندسية. ثم الفنان السوري سامي برهان في تكويناته الحروفية التجريدية المعتمدة كذلك على هندسة وطواعية الحرف العربي. وقد يكون من التجريديين السوريين الفنان عبد القادر أرناؤوط، والفنان محمد غنوم في تناغم حروفياته التجريدية التي توائم بين التشكيل والتطبيق، والفنان أحمد الياس الذي جرّد في الحروفية العربية كما الشعر والموسيقا. وكذلك الفنان سعيد الطه. ثم الفنان منير الشعراني الذي استبطن كثيراً من ممكنات الحرف العربي في لوحاتٍ تجريدية غاية في الإتقان. أما التجريد الغربي (الأوروبي) فقد أمعن في الغرائبية لدرجة جعلت التجريديين أنفسهم ينتقدون التجريديين. ففي أعمال هؤلاء بقي العمل التجريدي يرسلنا إلى خارج اللوحة كما يقول الفنان السوري عز الدين شموط الذي ينقل عن الفنان الفرنسي أتلان قوله:
 "أنا على عكس سولاج وهارتونغ، أنا أرفض ما يسمى بالفن التجريدي كما حدده ايستين: كلوحة تكتفي بذاتها وليس لها أي علاقة مع الواقع والعالم الخارجي، أنا عندما أبدأ بالرسم على سطح اللوحة البيضاء، فإن الأشكال المرسومة توحي لي بأشكال تشبه الطيور والنباتات رغم أنني لا أهدف التشخيص. فهي أشكال بصرية خيالية خرجت من ذاتي وتجاربي السابقة، وهي تشبه أشياءً طبيعية غامضة وغير محددة على مفترق عدة تأويلات، وأنا أعتقد أن الاستدراك والتداعي يلعب هنا دوراً كبيراً."
 إن دراستي هذه هي محاولة للبحث عن مصادر ما نسمعه اليوم من آراء فناني ومنظري الفن التجريدي التي هي عبارة عن تسلسل من الإضافات النظرية غير الموضوعية والتي تتعارض غالباً حتى مع إنتاج الفنانين التجريديين أنفسهم. سأقوم بدراسة ولادة نظرية التجريد المعاصر، هذه الولادة القيصرية التي بنيت على تشويه متصاعد ومستمر وقراءات ذاتية وشخصية وتفاسير لفنون مصر القديمة والزخرفة العربية الإسلامية والايرلندية، واعتبار كل ذلك فنوناً مجردة. سنحاول وضع هذه الفنون تحت الدراسة الدقيقة لنبيّن التناول السطحي والسريع والخاطئ لمنظري الفن التجريدي لهذه الفنون. سنبدأ بما قدمه غوت من آراء عميقة ومهمة ونبيّن كيف تم تشويهها والخروج عنها بصورة كاملة ابتداءً من ريغل وانتهاءً بفولانجيه وكاندنسكي، ومن بعده كل أدبيات الفن التجريدي.
 في عام 1789 بعد عودته من إيطاليا كتب غوت مقالاً يحدد فيه طبيعة الفن التشكيلي، غوت يربط الأسلوب بالمعرفة العميقة لجوهر الأشياء التي يحولها الفنان إلى أشكال محسوسة وملموسة. إن هدف الفنان هو إعطاء تمثيل ملموس للجوهر الحقيقي للطبيعة. وللوصول إلى ذلك يمر الفنان وعمله بثلاث مراحل تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى. وهذه المراحل تذوب أخيراً بعضها مع بعض:
1-    مرحلة التقليد والوصف العادي للأشياء. وهي تقوم على الرؤية الحسية المباشرة للأشياء، حيث ينقل الفنان المظاهر الخارجية لها. بناءً على الإحساس اللحظي والآني. يجب عليه أن يدرب يده وعينه عن طريق رسم "الموديلات" المختلفة وتعلّم التشريح والمنظور، والتقليد بدقة بنقل الأشكال والألوان وكل التفاصيل، وأن لا يبتعد الفنان عن الأصل. هذه المرحلة تعطي لوحة جميلة لكنها تبقى مقيدة ومحددة رغم أنها تتطلب صنعة ومهارة كبيرتين.
وهذه المرحلة تسمى بمرحلة " التنافس مع الطبيعة " يعتقد غوت أن بين اللوحة وبين الطبيعة هوة عميقة لا يمكن طمسها، كل ما نشاهده من حولنا ليس إلا (مواد خام)، هناك القليل من الفنانين الذين يستطيعون رصد وتملك الجمال الطبيعي، والغوص في عمق الأشياء وفهم جوهرها ليبدع بعد ذلك عملاً فنياً منافساً وموازياً للطبيعة، معبراً عن نفس وذات الفنان.
 يعطي غوت مثالاً عن الفنانين النادرين، صديقه الفنان هويزو الذي اشتهر برسم الزهور. فهو بعد أن يختار الزهرة من بين آلاف الزهور الموجودة بالطبيعة، بناء على لونها وملمسها وانتظام شكلها، يعطيها برسمه الإضاءة المناسبة، وذلك للوصول إلى الانسجام الأكمل. إن اختيار هذا الفنان لزهرته المفضلة، كان نتيجة معرفة علمية ودراسة معمقة للزهور، فهو يقلد شكلها وطريقة وجودها وبنائها: فموهبة هذا الفنان جمعت إلى جانب الثقافة الفنية ثقافة عالم الطبيعة، الذي يعلم أن التأثيرات الطبيعية المختلفة على النبات ابتداء من جذوره وانتهاء بأوراقه وعروقه المختلفة لها نتائجها على الشكل الخارجي لهذه الزهرة. هكذا شكل هذا الفنان الكبير زهوره، فلو كانت علاقة هذا الفنان مع الزهرة علاقة خارجية سطحية فقط، لما استطاع السمو بأسلوبه. لذا يجب على الفنان أن يتمتع بالإخلاص والعناية والاهتمام والصفاء، وأن يحس بشكل صاف بما يراه وأن يتعلم فن المقارنة والتمييز بين صفات وأشكال الأشياء المتشابهة والمتنافرة ويحولها إلى مفاهيم عامة أي إلى أسلوب وطريقة.
2-    مرحلة الطريقة: وهي تقوم على الارتفاع بمعرفة الأشياء وصفاتها الخاصة إلى صفات عامة، ونصل إلى ذلك عن طريق الاحتكاك المباشر والمتكرر مع الأشياء. ونتيجة لذلك يكتشف الفنان وجود تناغم وتلاقٍ بين أشكال الأشياء؛ هذا التناغم لا يمكن أن نجده في شيء واحد، وإنما هو حصيلة الرسم المتكرر لعدد كبير من الأشياء. يحاول الفنان التعبير عن هذا التناغم والالتقاء. فتنشأ بذلك رؤية الفنان الخاصة، وطريقة معالجته وتمثيله بشكل متميز عن الآخرين لأشكال الأشياء الطبيعية. والطريقة هذه هي همزة الوصل بين التقليد الحرفي والأسلوب.
3-    الأسلوب: وهو قائم على معرفة جوهر الأشياء الموجودة خلف مظاهرها العادية، حيث يقوم الفنان بإعطاء شكل محسوس لهذا الجوهر الصافي والخالص والمكتشف من قبل الفنان، هذا الجوهر هو الصفات غير المرئية والمستمرة للأشياء وطريقتها بالوجود. هكذا يحصل الفنان على رؤية عامة وشاملة لمجموعة كبيرة من الأشكال المتميزة والمنفردة للزهور، وهذا هو الهدف الأسمى للفن الذي يسعى لتسجيل جوهر الأشياء على شكل عمل فني ملموس يتنافس مع الطبيعة أي أن العمل الفني لا يحاكي الطبيعة فقط بل يحمل بنفس الوقت فكرة تشكيلية جديدة مثالية مستخرجة من مجموعة من التجارب والدروس والنتائج، التي تفتح الطريق أمام الخيالي أو المعنى الذي مصدره الاستبصار والاستلهام والتوهم، حيث يجمع الفنان الخيالي والإحساس الإنساني من ثم الطبيعي في جسم العمل الفني الواحد.
هكذا يؤكد غوت أن ثلاث المراحل ضرورية للفنان، وأن الفنان الذي يكتفي بمرحلة واحدة من هذه المراحل الثلاث سيبتعد عن إعطاء لوحة متماسكة وعمله هذا سيكون فارغاً وخاوياً.