نقد الفن التجريدي (3).. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

نقد الفن التجريدي (3).. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٨ يوليو ٢٠١٤

إن مفهوم الحداثة ليس بالشيء الجديد، في القرن الرابع الميلادي عند الرومان كان يعني هذا المفهوم صفة التوازن والقياس المستمر، وهذا يختلف عن مفهوم التنبؤ الذي يبشر بما سيأتي، فهو معيار بين الزمن الذي فات منذ لحظات وزمن المستقبل الآتي. إن أول من خلط بين مفهوم الحداثة والطليعة هو بودلير (القرن التاسع عشر)، الذي دعا إلى فكرة البحث الدائم عن الجديد، فصار هذا المفهوم يعني التجاوز والقلق والتنافر والانقطاع، لكن بودلير أعلن بنفس الوقت أن "الحداثة هي نصف العمل الفني وهي التحرك الدائم" فهو لم يُسقط من الاعتبار مفهوم التوازن والتعقل والحنين إلى الماضي، والحداثة بقيت بالنسبة له (النوسان) دون توقف بين المسك والترك والفرح والحزن والموت والحياة.
 بينما كانت وما زالت التعاليم الأكاديمية تؤكد على تخصيب وإغناء تعاليم الفن الماضية والاستفادة من دروسها، وإن محاكاة الواقع والطبيعة والحياة لم ولن تتوقف عطاءاتها الجيدة، وهذا يمر عبر إتقان المهنة، وهذا ما أكده منذ عصر النهضة مؤرخ وناقد الفن "فازاري" حيث يقول: للوصول إلى اكتشاف ما يمكن أن يكون عليه الرسم (أي الاستكشاف) لا يكون إلا من خلال إتقان المهنة كما فعل رافائيل وجيوتو وسيمابو...إلخ. لهذا سُميت هذه الفترة بعصر النهضة وليس بالعصر الحديث الطليعي، لأن الفن أراد الازدهار والتجديد كشجرة لها جذورها بالماضي لتعطي كل عام ثمراً جديداً؛ لأن التطور والتجديد هو قانون طبيعي.
 إن التجديد من أجل التجديد أصبح عملاً روتينياً وانكفأ على ذاته. لقد أمضى موندريان عاماً يكرر نفس المستطيل والمربع، وصار التجريد يدمر ذاته حتى أن سرعة التجديد تحولت إلى مزاودة وحركة دائرية مغلقة تموت قبل أن تعيش زمن نموها الطبيعي. الناقد الفني الإيطالي فانتوري أكد أن الكشف عن أسباب وأسس تكوّن فن الحاضر، لا يمكن إضاءتها إلا بنور الماضي، والدليل على ذلك هذه الحلقات المتماسكة التي تشكل سلسلة تاريخ الفن، لقد أعطى رافائيل ومكيل أنجلو وكل عصر النهضة شرعية التجديد بناءً على احترام العصر الكلاسيكي القديم، ألم تخرج المانييريسم من الكلاسيكية، والرومانتيكية من فن الباروك الذي ولد وترعرع في حضن الكلاسيكية والمانييريسم دون أن يقطع الصلة مع الواقع والطبيعة؟.
 أرسطو لم يقل أبداً إن دور الفن هو النسخ الحرفي للطبيعة دون زيادة أو نقصان، بل وضع ثلاثة أشكال للتعبير عن الطبيعة المتجددة:
أ‌-    كما نراها فنحاول نقلها بصدق وأمانة إذا أمكن ذلك.
ب- كما يمكن أن تكون عليه، ورفعها إلى أشكال مثالية مؤسلبة.
   ج-  كما يمكن تخيلها.
 إن المحاكاة حسب أرسطو ليست تغطية إخبارية للتجربة والأفكار البصرية للواقع، بل هي أيضاً تأكيد على دور الإحياء والتعبير، لأن الأسلوب والمعالجة الذي هو على صلة أكيدة بالتمثيل والتعبير عن الداخل والخارج والأفكار والمناهج التي تتولد عنها. لأن الانطباع البصري والفكري البصري مضاف إلى الطبيعة وليس الطبيعة بحد ذاتها.
 إن التقاء الداخل مع الخارج والانطباع البصري مع الطبيعة يعطي دائماً شيئاً جديداً، ألم يقل هيراكليت "إن الإنسان لا يستحم بماء النهر مرتين".
 لقد فهم منظرو الفن التجريدي بشكل خاطئ علاقة الإنسان بالواقع والطبيعة، كما فهموا بشكل خاطئ الحركة الانطباعية، وحوروا أهدافها وزوروا مقاصدها. مع أن الانطباعيين كانوا يعيبون على الواقعيين (كورييه كورو.. الخ) بأنهم كانوا يخبؤون الطبيعة وراء ستار من الطرق والاعتبارات التشكيلية، فهم لا يحترمون الطبيعة كما يجب، ولم يخلصوا لها، وبأنهم لا يرون الطبيعة إلا بشكل نظري، لأنهم لم يخرجوا إلى الطبيعة ليتصيدوا هذا الإحساس المتجدد والنقي للمناخ والضوء، كما يريد الانطباعيون رؤية الطبيعة على حالها البكر، كما تظهر إلى أعين بريئة غير منحازة سلفاً إلى أي أسلوب. لقد أراد الانطباعيون البرهان بأنهم أكثر إخلاصاً للطبيعة من الواقعيين أنفسهم، لقد أرادوا نقل الإحساس والانطباع المباشر للطبيعة بواسطة اللون والضوء المتحرك.
 فهم النقد التجريدي الانطباعية على أنها تجربة تسعى فقط للوصول إلى بناء شكلي للوحة بعيداً عن كل معنى وكل موضوع أو محتوى، أي إن التجربة الانطباعية بالنسبة لهم مبتورة عن علاقتها بالمشهد الخارجي، وتتركز أهميتها بالوصول إلى الانطباع والإحساس البصري باللون، وهدم البنية الداخلية للوحة.

    (يتبع..)