عبد القادر عياش كالفرات يعطي دون مقابل! (3).. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

عبد القادر عياش كالفرات يعطي دون مقابل! (3).. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٠ يونيو ٢٠١٤

علماء الآثار ينقبون بتؤدة متناهية ليستخرجوا من بين ركام الزمن وثيقة ما؛ ثم يعكفون على دراستها وتحليلها للاستدلال منها على مرجعيتها.. وعبد القادر عياش في مجاله "الفلكلوري" كان أشبه بمنقبي الآثار في توثيق ما يحوزه بالصبر والمثابرة والبحث والمتابعة عما خلّفه الزمن الشعبي في ميدان بحثه الماثل حصراً في المنطقة الشرقية من سورية انطلاقاً من المدينة التي شهدت طفولته وصباه وشبابه وكهولته وشيخوخته ووفاته (دير الزور).. سألته:
بين دير الزور ودرعا مسافة /700/ كيلو متر تقريباً، ومع ذلك فإننا نجد نفس الأهازيج. وقد  نجد في أهازيج فلسطين النفس ذاته. وربما نجد في أقطار المغرب العربي نفس الأهازيج تقريباً. فبماذا تفسر هذه المسألة؟
-    الحقيقة لو أن تاريخ كل من دير الزور وفلسطين الشعبي كُتب لتبيّنَت لنا أشياء كثيرة ولما أثار استغرابنا مثل هذا السؤال، لأن هنالك قبائل متصلة ببعضها في التجارة، كذلك فلقد كان قسم كبير من أبناء دير الزور قبل قرنين من الزمن يذهبون بالربيع في رحلة إلى حوران بوقت الحصاد بغية العمل في الصناعات التي يحسنونها تبييض المواعين، مثلاً، والحياكة، وتجارة البغال. وهؤلاء لهم اسم متعارف عليه هو طلاعة حوران، ولقد جاءت هذه الكلمة من طلع نحو الجنوب لأننا كلما ذهبنا نحو الجنوب نصعد. وهذه لها شأن في حياة دير الزور وتبادل العادات والأخلاق وإنه ليوجد حتى الآن ومنذ مئتي سنة (ديريون) سكنوا حوران، ولهذا تجد التماثل في أشياء كثيرة ومنها الغناء، هنالك أغنية شائعة في حوران تقول:
               يعويد الزل الحوراني يعويد الزل
بينما هي في غناء أهل الدير تقول:
             يعويد الزل الديراني يعويد الزل
ولكننا لا نعرف من السابق إليها. كذلك هنالك أغان في الأردن وعادات وتقاليد فرضها الاحتكاك المباشر والمصالح المشتركة، إضافة إلى القرابة. وثمة عادات وتقاليد مشتركة أيضاً بين دير الزور وحماة لأن هذه سوق للبادية وتلك سوق لها أيضاً، ولقد كانت دير الزور من أعمال  سلمية، وسلمية تابعة لحماة. هذا في إطار المنطقة الواحدة طبيعي جداً، ولكن ما يؤكد على هذه الوحدة هو أنك تجد هذه الأمور في أقصى الوطن العربي غرباً أو جنوباً، ففي السودان مثلاً، روى لي الدكتور راجي خباز الذي مكث عشرين سنة كطبيب له مستشفى وموظف حكومي قال: نفس العادات ونفس اللهجة بين عشيرة تسمى في السودان (بقارة) وبين دير الزور. وفي الجزائر حسب روايات المدرسين الذين عملوا بها، كانوا يؤكدون وحدة التقاليد، وهذا تفسير لوحدة القبائل العربية في أقطار الوطن العربي.
         
كيف تجد العلاقة بين شعر(الهوسة) في وادي الفرات وبين شعر الحماسة عند العرب؟
-    شعر الحماسة عند العرب هو الشعر الفصيح الذي عُنيت به العرب وظهر في حماسة أبي تمام والحماسة الشجرية...إلخ، أما شعر الهوسة فهو الشعر الشعبي الحماسي وهو عندنا وفي العراق وفي الخليج العربي واحد - نفس الشيء-.

لقد لاحظت فرقاً بين الاثنين هو أنّ الأول الفصيح أحادي ينشده فرد واحد، بينما الآخر جماعي؛ فكيف ترى؟
-    هذا صحيح لكن الهوسة تبدأ بشخص واحد يسمى (المهوّس) يبدأ البيت الأول فيردده الآخرون ثم البيت الثاني وهكذا حتى النهاية:
               " يا شيخنا حنا العبيد
                 حنا بسامير الحديد
                ما عندنا غير الفشك
               والماطلي ترعد رعيد".

هذان البيتان من حداء العرب، على ما تقرره بكتابك الحماسة، وأنا أرى أن عبارة "بسامير الجديد" لا تتفق مع طبيعة البدوي، ذلك لأن كل ما لدى البدوي تقريباً منسوج أو مخيط  ومن هنا يمكننا الشك بمدى صحة هذين البيتين، فكيف ترى؟
-    أنت تقول الحقيقة نفسها وليس الشك، لأن هذا القول أُخذ من قبيل المجاز فهو حداء أهل الريف وليس البدو، ومثله:
                "يا بنت يللي ع السطح
                  طلّي وشوفي خيولنا"
فالبدوي لا يسكن داراً حتى  يكون له سطوح. ولذلك فهو حداء أهل الريف. أما البدوي فله قصيدُه الخاص وحداؤه. ومن المغالطات أنهم ينسبون نوعاً من الغناء اسمه (العتابا) لعبد الله الفاضل، في حين يقدمون قصة عبد الله هذا الأسطورية على أنه فيها بدوي. والبدوي لا يعرف العتابا لأن له قصيدُه وحداءه كما أسلفت، وأنا من أكثر الناس معرفة بالبداوة، ولهذا أنفي شخصية عبد الله الفاضل وأراها موهومة لا وجود لها في الواقع البدوي بل هي من إنتاج أهل الريف لا أكثر.
ثمة مسألة لم أستطع أن أتبيّنها جيداً هي أن معظم سكان وادي الفرات والخليج العربي أيضاً ينتخون باسم المرأة، أمثال: شمه، وضحه، وعمشه، سمحه،...إلخ . ثم نجد من يقول: "أنا أخو أختي"، وقد نجد من ينتخي بأمه. إلا أننا حين نسأل هذا الذي ينتخي بالمرأة: ألديك أولاد؟ فإننا نسمعه يجيبنا: "نعم، عندي ثلاثة صبيان - مثلا ً- والباقي تكبّر عن طاريهن" أي الباقي بنات فبماذا تفسر هذه النظرة؟
-    في الواقع إن المرأة منذ القديم وعند البدو إلى الآن، ترافق الجيش والغزو، ليس من أجل العناية بالجرحى والطبخ بل من أجل المشاركة وإثارة الحماسة في القتلى ولهذا نسمع الرجل يقول لها "لعينيك يا فلانة"، وفلانة هذه تكون من عشيرته أو قبيلته. ثم اختصروا كلمة لعينيك وقالوا:"يا فلانة أنا هنا وسأثبت في الميدان" وتشيع هذه المسألة أكثر فنسمع مقولة: "أنا أخو وضحه أنا أخو شمسه، أخو فاطمه،...إلخ"، ومن البدو من ينتخي بجدته. أما فيما يتعلق بذكر عدد الأولاد من الذكور دون ذكر عددهم من الإناث فهو تقليد لا يعني شيئاً وليس هو من عادات البدو. بل أن البدوي لا يكتفي بالانتخاء بالمرأة فقط، إذ يتعدى ذلك إلى الانتخاء بالفرس أو بالناقة، فبدو (المهيد) مثلاً ينتخون بشيخهم (راعي العلي) وهي ناقة اسمها (العلي) أو (راعي الوضحه) والوضحه الناقة البيضاء. ومنهم من ينتخي بكلبته، وثمة في دير الزور فخذ (الشّوا لِغة) نخوتهم أخوة (وجرة) ولقد تبيّن لي في التحقّق عن هذا الاسم من شيوخهم إنه اسم كلبة كانت لهم. وعندنا فخذ آخر اسمهم: أخوة الشلبة (الكلبة).

هذا يعني أن البدوي يحترم الأنثى حتى في الحيوان!
-    جداً. والأنثى المرأة تستقبل الضيوف حين غياب زوجها وهي (شيخه) كزوجها الشيخ، أي سيدة في العشيرة ولهذا لا يمكن أن تحتقر بعبارة "تكرم عن طاريها" لأن هذه العبارة حضرية متخلفة وليست بدوية.
                                                                                       (يتبع..)