ديموقراطية أميركا المزيفة: البرهان العلمي

ديموقراطية أميركا المزيفة: البرهان العلمي

تحليل وآراء

الخميس، ٢٤ أبريل ٢٠١٤

تجذب حركة اللوبيات في الولايات المتحدة، من استديوات هوليوود إلى عقارات نيويورك مروراً بمكاتب السيناتورات في واشنطن، تحليلاً سخياً، يوجع الرأس أحياناً. هكذا، يقضي التسليم بالعيش في كنف النظام قبول آلياته وبلع مفاسده، ما دامت الديموقراطية قائمة والجميع يختار ممثليه ورئيسه بحرية. ولكن الجميع أيضاً يعرف أن المشهد ليس بريئاً، إذ إنّ تأثير غالبية الأميركيين على السياسة العامّة «ضئيل إلى درجة الصفر ومعدوم الأهمية إحصائياً». هذا ما تتوصل إليه دراسة أنجزت أخيراً بين جامعتي «ستانفورد» و«نورث وسترن»، تؤكّد لمن يحتاج إلى التأكيد أن النظام أوليغارشي بامتياز ويعكس مصالح الأغنياء والنافذين على حساب الشعب
من يُمسك بزمام السياسة الأميركية؟ من يحكم فعلياً؟ إلى أي درجة يُعدّ المواطنون الأميركيون سياديين، شبه سياديين، أو من دون تأثير على الإطلاق؟
«حفّزت هذه الأسئلة أعمالاً بحثية عديدة حول السياسة الأميركية»، يقول مارتن غيلنز وبنجامين بايج وهما من الجامعتين المرموقتين «ستانفورد» و«نورث وسترن»، في دراستهما: «تحليل النظريات السياسية الأميركية: النخب، مجموعات المصالح والمواطنون العاديون».
ولكن أياً من الجهود السابقة لم يتوصل إلى نتيجة علمية مدمجة وشاملة أو حتى إلى خلاصة جازمة كالتي نراها هنا: النظام الأميركي يقوم على سيطرة النخب الاقتصادية والتعددية المنحازة لمصالح معينة، وهو ليس أبداً ديموقراطية الغالبية الناخبة أو حتى التعددية الأكثرية.
فعلياً هناك أربع نظريات تقليدية لدراسة السياسة في الولايات المتّحدة: ديموقراطية الأكثرية الناخبة، سيطرة النخبة الاقتصادية، التعددية التي تقودها الغالبية، التعددية المنحازة (مع العلم بأن النظريتين الأخيرتين تمثلان شكلين مختلفين من التعددية التي تقودها مجموعات الضغط).
يطرح معدّا الدراسة الإشكالية التقليدية لدى مقاربة هذه النظريات الأربع: كلّ واحدة منها تضع افتراضات معينة عن مستوى تأثير كل شريحة من المجتمع على السياسة العامة. تلك الشرائح هي: المواطن العادي، النخب الاقتصادية إضافة إلى جماعات الضغط المنظمة، أكانت على مستوى شعبي أم عبارة عن لوبي تجارة وأعمال.
صحيح أن النخب على اطلاع ودراية أكبر، ولكن ماذا تعرف فعلاً عن التأثير الإنساني للبرامج الاجتماعية؟ إذ إن أياً من هذه البرامج لا يؤثّر في رفاهيتها
وتأتي هذه الدراسة لتختبر دقة كلّ فرضية ولتتوصل علمياً إلى نسبة التأثير الفعلي على السياسة العامة، بحسب كل شريحة اجتماعية واقتصادية، وذلك بالاعتماد على بيانات غنية تحوي 1779 تعديلاً في السياسة العامّة، أي القوانين والمراسيم، جرى إقرارها بين عامي 1981 و2002. والتحليل هو كالآتي: إذا استطعت تحديد المستفيدين من القوانين التي يُقرّها النظام تعلم من المسيطر عليه.
الخلاصة، وفقاً لكلمات الباحثين، هي أنّ «النخب الاقتصادية ومجموعات الضغط المنظمة التي تمثّل مصالح الشركات تتمع بتأثير جوهري في سياسة الحكومة الأميركية». وفي المقابل، يتابع التحليل، «تأثير المواطنين العاديين ومجموعات الضغط الشعبية هو ضعيف أو معدوم». يخرج الباحثان باستنتاجات جريئة وطموحة تتخطّى الحيز الأكاديمي لتبحث في المسؤولية الاجتماعية والسياسية التي تفرضها دراستهما. يقولان: «رغم أن الدراسات السابقة التي تبحث نظريات الديموقراطية الأكثرية أنتجت براهين علمية قوية، إلا أنّ تحليلنا يفترض أن تأثير الشعب الأميركي على السياسات التي تتبناها حكومتنا هو ضئيل».
يشرح الكاتبان خلاصتهما كالآتي: «صحيح أنّ الأميركيين يتمتعون بمزايا عديدة يؤمنها الحكم الديموقراطي، مثل الانتخابات الدورية وحرية التعبير والاجتماع حول قضايا معينة... غير أننا نؤمن بأنّه في ظلّ سيطرة المنظمات والشركات النافذة وعدد محدود من الأغنياء على صوغ السياسات العامّة فإنّ زعم أميركا أنها مجتمع ديموقراطي مهدّد على نحو خطير».
اللافت هو أنّ هذه الدراسة التي ستُنشر في الخريف المقبل في المجلة المتخصصة «وجهات نظر سياسية» (Perspectives on Politics) ترى النور اليوم في وقت ولادة حرب باردة جديدة قد تصبح حامية في أي لحظة.
فالوقود التقليدي الذي استخدمه المعسكر الغربي ولا يزال لمواجهة الشرق هو التبشير بالديموقراطية وبأنّ الحكم يجب أن يكون بيد الشعب كما في أميركا، وليس بيد النخبة الشيوعية، مثلما كان الأمر قبل 1990، أو بيد تحالف السياسة مع الشركات وطبقة الأوليغارشيين، كما الوضع حالياً.
روسيا تمارس أوليغارشيتها بصراحة، فيما أميركا تمارس ديموقراطيتها بنفاق!
غير أن الدراسة تثبت أنّ الأوليغارشية تسيطر أيضاً في الولايات المتّحدة، وأنّ الاختلاف بين المعسكرين هو كيفية توضيب المنتج السياسي وتقديمه للعالم الخارجي عبر الأدوات الثقافية والدبلوماسية.
هناك اختلاف آخر يُمكن التوصل إليه: روسيا تمارس أوليغارشيتها بصراحة، فيما أميركا تمارس ديموقراطيتها بنفاق! على أي حال، يؤسّس البحث، بحسب معدّيه، لإجراء دراسات إضافية لهدف تحديد أي شرائح من النخب الاقتصادية لديها التأثير الفعلي في السياسات المعتمدة وكيف. هل تعكس مصالح الواحد في المئة الأغنى؟ أم نسبة الـ0.001% الأغنى؟ أم الأغنياء إجمالاً؟
ولعلّ أهمّ النقاشات التي يحفّزها هذا البحث هو النقاش حول كيفية تحديد الصالح العام. فالنظرية التقليدية المعتمَدة في وجه الديموقراطية الشعبية تقول: المواطنون العاديون لا تشدهم السياسة إجمالاً، فلمَ علينا القلق بشأن مستواهم المعرفي الضئيل؟ ربما الأفضل ترك زمام الأمور للنخب الاقتصادية التي لديها اطلاع أكبر على كيفية صوغ السياسات وتحقيق الصالح العام.
غير أنّ الكاتبين يعرّيان هذه النظرية النخبوية التي تقوم على مصالح القلّة: «نؤمن بأنّ المواطنين العاديين يُدركون مصالحهم على نحو جيد... في المقابل لسنا متأكدين من فائدة الأفضليات التي تتمتع بها النخب. صحيح أن هذه النخب هي على اطلاع ودراية أكبر، ولكن ماذا تعرف فعلاً عن التأثير الإنساني للضمان الاجتماعي، الإعانات الغذائية أو إعانات البطالة؟ إذ إن أياً من هذه البرامج لا يؤثّر في رفاهيتها».

الشعب يريد... ستاتيكو!

«تُظهر دراستنا أن استجابة النظام السياسي الأميركي لمطالب الغالبية، لاتخاذ إجراء معين، هي محدودة جداً»، يقول الباحثان مارتن غيلنز وبنجامين بايج. وفقاً للتحليل الذي أجرياه، فإنّ المعوقات في وجه سلطة الأكثرية التي تمّ تطويرها في كنف النظام – تحديداً: الفدرالية، فصل السلطات والنظام التشريعي الثنائي – إضافة إلى معوقات أخرى منها مضاد لحكم الغالبية ومنها ناتج من آليات الكونغرس، جميعها تجعل النظام لصالح الستاتيكو وليس التغيير. هكذا، عندما تفضّل الغالبية الإبقاء على الوضع الراهن (Status Quo) في مواجهة تغيير مطروح، تحصل على ما تريده، ولكن مهما تكون عظمة هذه الغالبية فإنّها من غير المحتمل أن تحقّق التغيير الذي تتطلع إليه. واستناداً إلى البيانات الإحصائية، فإنّ غالبية بنسبة 80% لم تستطع تحقيق التغيير الذي تطمح إليه سوى في 43% من الحالات.