الفيلسوف والشاعر.. بقلم: شادي العمر

الفيلسوف والشاعر.. بقلم: شادي العمر

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢٣ أبريل ٢٠١٤

رجلان يتسلقان الجبل سوية، وعلى الطريق ذاتها يسيران. وعندما يبلغان القمة، يشهدان من الموقع نفسه حالة "الفوق" ويختبران تجربة العلو، والفرجة أمامهما واحدة على السفح والوادي و«التحت».
وبعد أن تأخذهما روعة المشهد، ويملأ نفسيهما حضور التجربة، يقصدان العودة فيفترقان، الأول يسلك هابطاً نفس الطريق التي سلكها في صعوده، أما الآخر، فيرمي بنفسه رمية واحدة من قمة الجبل إلى بطن الوادي، الأول فيلسوف بينما الثاني شاعر.
أعرف أن تمثيلي هذا شديد العرج، لكن الذي يكفي منه أن أقول إن الشاعر والفيلسوف يتشاركان الموضوع والطريق نفسها في الذهاب إليه ويفترقان في العودة، وفي افتراقهما تنشأ الفلسفة وينشأ الشعر.‏
الوجود والحياة ومقولاتهما الكبرى، كالحق والخير والجمال والحرية والسعادة والقلق والعدم والموت إلخ..، والمقولات الأخرى التابعة لها، تساوي في مجموعها الموضوع ذاته الذي يتأمله كل من الفيلسوف والشاعر، فهما ينفذان إلى عمق التجربة الإنسانية في الوجود، تدفعهما الدهشة والشك والقلق، وكلاهما إذ يصعدان الجبل، ينصرفان لفعل التأمل هذا، عندما يستحضران العلو الذي يمكِّنهما من التعالي على كل ما هو جزئي ومحدود ومنقوص الرؤية، أو الاتصال بكل جليل ولا محدود وعصيّ على التجربة. ومن ثم يقدمان حدسيهما الخاصّين بالوجود كل على طريقته؛ فالشاعر، من خلال القصيدة، يدفع بحدسه دفعة واحدة، كأنما يرمي بنفسه من عالي الجبل. والفيلسوف يمكّن حدسه كحجر أساس يبني عليه فلسفته لتفسر وتستغرق التفصيل والجزئي في الوجود، وذلك ضمن نسق منطقي محكم يطول أو يقصر حسب البناء الذي يشيده، وحسب الحجر الأساس الذي أسّس عليه. يفترق الشاعر والفيلسوف بعد الرؤية الحدسية لكلٍّ منهما. فالأول متمرد على منطق الثاني، لا يأبه بتحديداته واستنتاجاته وبراهينه، ولا يطيق المحاكمات العقلية والآراء النقدية التي تقتل الجمال الذي ينشده، وتعكر صفو مزاجه ورهافة إحساسه. لذلك كان الشعر حالة أقرب إلى الجنون جراء سعيه لنفي كل عقلانية عن موضوعه، طالما أن العقل محكوم بالمنطق الذي لا يطيقه الشعر. ومثله في ذلك مثل أي إبداع آخر، فالإبداع لا يخرج ليفتش عن علله خارج دائرة حدسه، ولا يستخدم العقل ليبرهن صدق هذا الحدس ويدعمه. ولذلك أيضاً كان الشعر ضد المنطق، وكان أعذب الشعر أكذبه، وكان الشعر ربيب الخيال والتوهم والحلم، وضرباً من الهذيان والحمى، وعالماً ملوناً مسكوناً بالسحر والجنّيات. لابد للفيلسوف، ولو لبرهة، أن ينخطف خطفة الشاعر، ثم لا يلبث أن يعود لرشده المنطقي ليتمثل في سلوكه، فعلاً واستجابة، نمطاً شديد المغايرة والاختلاف عن الشاعر. ولكنه وثيق العلاقة به، فطريق الجبل جمعتهما، ورابطة الحدس آخت بينهما، وتقاسما السرّ وحديهما، ليذيعه كلّ على طريقته. فعاد الفيلسوف بعينين عميقتين هادئتين ترقان بالكاد. أما الشاعر فعيناه شاردتان حائرتان لا تستقران على شيء، تقطران قلقاً ونفاد صبر، وكأن نور الحدس أقوى مما احتملتا، فلم يبال وقتها إذ رمى بنفسه من شاهق الحياة ذاك، وعاد إلينا إنساناً مجذوباً حزيناً يتوعدنا بالانتحار. يقول الشاعر كثيراً، لكنه يبقى صامتاً إلا في القصيدة، وهو منزوع إلى الأنانية والفردية في الخلاص، لا يحتمل برود عقولنا وبطء تفكيرنا، ولا يأبه إن فهمنا أو لم نفهم، إذ ليس الفهم مملكته، بل الحدس والذائقة. يقول كلماته برمزية مذهلة، ويصنع منطقه على عينه وكما يريد ويشتهي، فيعيد موضَعة اللغة ويؤسسها لتناظر عالمه الجوّاني. يهرب من تحلقنا حوله، ويستخفّ بحفاوتنا به وتصفيقنا له، يائس من أن نفهمه، أو نعتقد معتقده. فمذ أن "جذبته الحال" و"أخذه السر"، صرنا بعينيه هباءً ما عاد يقيم له وزناً، فتراه يرتدي ما يشاء، ويتصرف كما يحلو له، إن شرب أفرط في الشرب، وإن دعي لنادٍ تأخر أو لم يلبّ. يعشق كل النساء، ويكره كل الحكومات، ولا تَعجب إن رأيته نائماً على رصيف من شدة السكر، أو قبضت عليه متلبساً يغازل زوجتك. أما الفيلسوف، فعلى العكس تماماً، يقول كلماته دون لبس أو غموض ويكشف منطقه دون تلاعب باللفظ، يخاطب عقولنا ويستثيرها لتعمل كعقله وتصبح حرة مستنيرة منفتحة. يفرح بتحلّقنا حوله، وحول الحقيقة إذ يرى نفسه رسولاً يبشر بها، فيدعونا لنفهمه ونشاركه التجربة. وهو إلى جانب ذلك، دائم الأناقة، مفرط التهذيب، ويشرب - إن شرب- باعتدال. هو لا يشتُم الحكومات أياً كانت، بل تراه صديقاً وفياً للحكومات العادلة، ولا يبخل بالنصح على تلك التي تريد أن تكون عادلة، ويدير ظهره للتي ليست كذلك، ولا تريد أن تكون. هو أيضاً يغازل كل النساء، ولكن على مرأى ومسمع الجميع، ولا ينام إلا جانب زوجته.