متى تسقط الرّجعية العربيّة المتصهينة…؟

متى تسقط الرّجعية العربيّة المتصهينة…؟

تحليل وآراء

الأحد، ٢٠ أبريل ٢٠١٤

يخرج الواقع العربي اليوم بجدليته ومفارقاته عن التصنيف المعهود في الفكر السياسي وفي المجتمع. فقد عرفت الشعوب مراحل انتقال عديدة من المشاع إلى الإقطاع إلى البرجوازية فالرأسمالية فالامبريالية المتوحّشة، لكننا اليوم نشهد تحولاً مريباً ومضحكاً، إنه انتقال لا نوعي، غير متوقع وغير قابل للتصنيف نظرياً، يتجلى في النشاط الرجعي الإقليمي المحموم الذي وصل حد الهذيان. فمن كان يتوقع أن تستلب أنظمة الرجعية المشهد الاحتجاجي العربي الذي يجب أن يكون واعداً في زمن ثورة المعرفة والانفتاح والتقدم العلمي المذهل؟
فالرجعية العربية المتمثلة اليوم بمستواها الرسمي بممالك وإمارات ومشيخات الخليج، لا تجيد إجراء الحسابات الدقيقة، ولا تعرف من معاني الاستراتيجيا إلا ما يفيدها في مواصلة بيع ثرواتها الطبيعية من النفط والغاز، وما يخدمها في الحفاظ على عروش ملوكها وأمرائها ومشايخها عبر العلاقة التبعية مع واشنطن وبعض عواصم غرب أوروبا، وخارج هذين الشرطين فهي تعمل معصوبة العينين في كل الاتجاهات لمصالح لا يعنيها أين تصب، وأجندات لا يهمها من تستهدف وصفقات لا تعرف الرابح فيها من الخاسر، وهي من أجل ذلك تستبسل في التحريض على التغيير في المنطقة، وتمويل هذا التغيير طالما أن المطلب الأميركي ينحو هذا المنحى.
لقد كان تحوّل الرأسمالية الغربية إلى إمبريالية متوحّشة متجلياً بصورة مقرفة في الواقع العربي منذ رعاية هذا التحول لمشيخات البترودولار، وكانت وضاعة الغرب مثيرة للتقزز أمام المال العربي ما سهّل التمادي في تبديد الثروات والطاقات. فلا تغيب عن الأذهان صورة ”برلسكوني” وهو يقبّل يد القذافي، ويحضر مؤتمر القمة العربية في سرت نائماً، ولا صورة الأمريكي وهو يراقص آل سعود في مهرجان الجنادرية ويعبثان سوية بالسيف العربي…، ولا جهود ”أوباما” في رحلته المضنية إلى الهند وحواره الشاق مع حكومتها ليظفر بعقد بيع أسلحة قيمته 4.7 مليار دولار، بينما يتقدّم آل سعود إليه بأريحية بعقد 60 مليار دولار، ولا لهاث حكام قطر لإدماج إسرائيل ـ حاضنته ـ في الشرق الأوسط الجديد.
إنه تكامل الأدوار القذرة بين الرجعية ووحشية الامبريالية الجديدة.
لكن المؤسف فعلاً أن تسمح الظروف بتورّم حكام الرجعية وانتفاشها، فيتصدون لقيادة العمل العربي المشترك، ولتبؤ دور فاعل بل أساسي في زمن عربي جديد يتهافت فيه النظام الرسمي العربي، وكذلك بعض النخب، أمام البترودولار.
فالجامعة العربية وأمينها البائس، وبعض وزراء الخارجية يدخلون في صغار وانقياد أمام الوزيرين القطري والسعودي على أنهما مؤهلان ومبايعان لدور ريادي لا ينفصل بالتأكيد عن أجندة المركزية الغربية التي طالما لم تفارق المشروع الصهيوني.
لن ندع الآخر يتهمنا بإصدار الأحكام على الآخرين انطلاقاً مما يتصل بنا مباشرة كقوميين، ونتحدى هذا الآخر أن يجد تفسيراً يتمتع بأقل من الحدود الدنيا لرضا وقبول أغلبية العرب اختطاف حكام الرجعية لجامعة الدول العربية، أو أن يجد تفسيراً لعدم تخلف كل العرب عن حضور اجتماعات الجامعة المختطفة رغم علمهم ومعرفتهم بمستويات النفاق والكيدية والخيانة السعودية ـ القطرية؟!
ما موجبات هذا الاختطاف، وما موجبات كل هذه المستويات من الخيانة والتآمر على البلدان العربية التي تعاكس أمريكا وإسرائيل؟
لقد تحولت الرجعية العربية إلى الطور الامبريالي الصهيوني، وهي تمتد وترنو ليكون مجلس التعاون الخليجي (المنقسم على نفسه) هو الوطن العربي كله، ولتكون النظم الرسمية العربية الجديدة أسيرة مخاطر الدعم المالي الخليجي حتى يستقيم أَودها بعد أن تنمو وتتطور على الرضاعة من الثدي الرجعي الأطلسي. وتبقى قضايا أساسية وطنية وعربية مؤجّلة لمرحلة ما بعد التدجين.
فأي مستقبل ينتظر الحقوق والأجيال العربية؟! ولا سيما حين تصادر التطلعات المشروعة في المشهد الاحتجاجي العربي بقرار قطري ـ سعودي يستلب الآمال والآفاق!
لقد وجدت بعض القوى السياسية المعروفة تاريخياً بعدائها الشديد للإيديولوجيا القومية العربية فيما تشهده بعض البلدان العربية، فرصة لتكريس خلط مقصود بين الرجعية الخليجية الحاكمة التي تتولى تنفيذ هدف تدمير الدولة الوطنية، وبين شعبنا العربي في الخليج، مع أن هذا الشعب يعاني بدوره الأمرّين من قمع تلك الرجعية وبطشها، ويخضع لعمليات غسل دماغ منهجية لطمس انتمائه القومي، وإخراجه من معادلة الصراع العربي الصهيوني، والزج به في صراعات طائفية وإقليمية بديلة.
ومن الواضح أن الذين يشتمون اليوم العرب والعروبة والقومية العربية بحجة ما تقدمه الرجعيتان السعودية والقطرية من دعم للإرهاب الذي يقتّل السوريين والتونسيين واليمنيين والمصريين والليبيين ويدمر بلدانهم، إنما يخدم موضوعياً الموقف الرجعي العربي المعادي تاريخياً للعروبة ولاسيما العروبة السياسية الممثلة بالمشروع الوحدوي النهضوي المقاوِم.
وإلا فما علاقة العرب والعروبة والقومية بالرجعية؟ ومتى لم تكن العروبة والقومية هدفاً لتآمرهما القديم الجديد؟
فمن المعروف أن قطر منذ 1995 تستقبل قطعاً من القوات الجوية المكلفة مراقبة منطقة حظر الطيران في جنوب العراق، وتحولت في التسعينيات إلى أكبر مخازن الأسلحة والعتاد الأمريكي في المنطقة، وبنت قطر على نفقتها مجمعاً يضم سبعة وعشرين مبنىً لتخزين الآليات والقوات الأميركية استعداداً للعدوان على العراق.
وفي قطر أهم بنية تحتية عسكرية أميركية في المنطقة، وقد انتقل المقر العملياتي للقوات الخاصة التابعة للقيادة العسكرية المركزية الأميركية للمنطقة الوسطى إلى قاعدة السيلية القطرية عام 2001. وقد جرت عملية نقل المقر الميداني حسب الكاتب الأميركي ”وليم أركن” تحت ستار التمرين العسكري (نظرة داخلية) الذي كان في الواقع تدريباً على خطة قيادة العدوان على العراق. وكانت القيادة الجوية للقيادة العسكرية المركزية الأميركية CentCom قد انتقلت من السعودية إلى قطر بين 2002 و2003 ومقرها قاعدة العيديد الجوية التي تضم أطول وأفخم المدرجات في المنطقة. ويقول ”أركن” أن قطر أنفقت أكثر من أربعمائة مليون دولار لتحديث عدة قواعد مثل العيديد وغيرها بمقابل الحماية العسكرية الأميركية للدولة الخليجية.‏
أما في السعودية وفق الكاتب نفسه فإن قاعدة الأمير سلطان الجوية في الخرج كانت خلال السنوات الماضية مركز قيادة القوات الأميركية في السعودية والمنطقة مع انخفاض أهميتها كثيراً بعد بناء القاعدة الأميركية في قطر واحتلال العراق. وقد كانت تلك القاعدة المنصة الرئيسية للإشراف على منطقة حظر الطيران جنوبي العراق، ثم تحولت إلى إحدى منصات غزو أفغانستان ثم العراق.‏
القواعد الأخرى التي تستخدمها أميركا في السعودية بانتظام في الظهران والرياض وفي خميس مشيط وتبوك والطائف، ومع أن الوجود العسكري الأميركي المباشر تقلص كثيراً بعد آب 2003، مقارنةً بما كان عليه عام 1990 فإن عناصر مهمة منه ما زالت حتى الآن على الأرض. والغريب أن هذه القواعد الأميركية يطلق عليها أسماء الملوك والأمراء! مثل قاعدة الملك خالد وقاعدة الملك فهد وقواعد بأسماء غيرهما.‏
وما يحزننا أن حكام الرجعية العربية يعرفون أنهم أدوات بيد الاستعمار ينفذون ما يريده منهم بدقة مع انحناءة وإلا طارت ممالكهم وطارت رؤوسهم، وهي لابد أن تطير ذات تاريخ قريب، كأن حكام الرجعية العربية لا يقرؤون التاريخ… ولو أنهم قرؤوا لما قبلوا بان يكونوا ”أقزاماً” في البيت الأبيض.
أما سمعوا بلورانس العرب الذي أرسل برسالة منذ أكثر من مئة عام عندما أرسل برسالة إلى حكومته في بريطانيا يقول فيها يجب أن ننجح في تحويل الوطن العربي إلى دويلات ضعيفة، متناحرة… متصارعة… دويلات إثنية وطائفية وعرقية… متحاربة…
في الأوقات الراهنة، أقرأ في الصحافة والإعلام الغربي، وأرى الكم الهائل من الأذيات البادية على شكل برقيات وطلبات ورجاءات وتوسلات رجعية عربية خليجية رخيصة ومهينة… لكي يستخدم هؤلاء الحكام قوّتهم وهمجيتهم للخلاص من بعض الحكومات العربية، إنها ـ ويا للأسف ـ برقيات يومية طافحة بالمذلة، والضعف المخجل استحلافاً لحكام الغرب لكي يحتلوا البلاد العربية مرة أخرى…
وهنا يتبدى أمران، الأول هو صراحة الغربي وكشفه للأسرار العربية من أجل الإمعان في إذلال حكام الرجعية العربية، والثاني هو الرخص الشديد لسلوك بعض حكام الرجعية العربية، وتفاهة التفكير الأسود الذي وقعوا في شباكه!
في المضمون فإن الرجعية العربية في كل ما حصل قامرت بكل رصيدها دفعة واحدة، دون أن تعلم أن رياح التغيير التي هبت على المنطقة، كيفما كان تقييمنا لها سوف لن تتوقف عند حدود رمال الربع الخالي، وأن العدوى التي انتشرت شرقاً وغرباً في المنطقة العربية لن تستثني حكام الرجعية الخليجية، الذين هم الأحوج والأكثر عطشاً للتغيير مادامت طواقمهم الحاكمة هي الأكثر جهلاً واستبداداً بين كل المقامات العربية الحاكمة، ومادامت الثروة الخليجية تتبدد من وراء ظهور المواطنين الخليجيين لتبتلعها مصارف نيويورك ولندن وباريس، وصفقات السلاح التي لا تعدو كونها مظهراً من مظاهر الوجاهة الفارغة التي تفتقر إلى أي معنى حربي على أرض الواقع.‏‏
نحن نعيش اليوم في مرحلة رجعية عربية تندثر بها مصطلحات ومفاهيم الوحدة العربية في مستواها الرسمي الحاكم، أما الشعوب العربية فما زالت تنشدها في روح الإحساس بالمصير المشترك، ونشاهد كيف يضمحل العمل العربي المشترك، والدفاع والأمن العربي المشترك، لتطل برؤوسها مصطلحات الأمركة والفرنسة ونعود إلى التتريك، ولتطل ”الأسرلة والصهينة” مقدمات بديل العروبة والجامع القومي، ونرى بأم أعيننا سموم النسق الدولي المهيمن، في أشباح التتطييف والتمذهب والصراع الهوياتي والإثني بديلاً منها، وعموم المشاريع الخبيثة والمخططات الشريرة خدمةً لعيون ”إسرائيل”.
نحن في زمن لا أجد له تسمية تستوعب كل شروره، في التاريخ العربي مرحلة أطلق عليها العرب مرحلة الانحطاط… أنا على يقين أن مرحلة الانحطاط التي عاشها العرب في زمن الدويلات لم تصل بنا إلى هذا المستوى الذي يعيشه العالم العربي اليوم،‏ لم يصل سفك الدم العربي على يد العرب أنفسهم إلى هذا الحد.
لم تنتشر فيه مفاهيم التكفير إلى هذا الوضع الذي نعيشه، ولم تستيقظ الطائفية والمذهبية والإثنية كما استيقظت اليوم، ولم يتفكك الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي، والاقتصادي كما هو مفكك في هذه الآونة، والأكثر خطورة في كل ذلك لم يصل العرب إلى هذه المرحلة من الدونية، والانجرار خلف الدول المعادية للعرب والعروبة والإسلام كما هم اليوم خلف أميركا والغرب، وخلف الصهيونية العالمية التي تستهدف الإسلام والمسلمين أرضاً ومقدرات ثقافية واجتماعية واقتصادية، للوصول بالعرب إلى مرحلة التلاشي، ومن ثم الموت والاندثار كأمة لا أريد أن أكون متشائماً، ولكن الواقع الراهن بكل وجوهه المزرية، يواجهنا، يدفع بنا إلى أن نقر بما هو قائم، لا أن نطمر رؤوسنا.‏
إن الدور الرجعي العربي القذر هو اليوم المسؤول عما تتعرّض له سورية ومصر وتونس واليمن، وما تعرض له العراق وليبيا، وما ستتعرض له دول عربية أخرى موضوعة على القائمة…
إننا أمام مشهد تاريخي مؤلم تغيّب فيه الحقائق، وتتلاشى معه القضية الوطنية والعربية المركزية، لكن تحميل العرب والعروبة والقومية العربية أوزار ما تقترفه أيدي الطغم الرجعية العربية المتصهينة، وذهاب البعض على خلفية ذلك إلى حد نعي المشروع القومي العربي والتبشير بمشاريع جديدة كمشروع الكونفدرالية المشرقية، فأمر من المؤكد أنه لا يخدم مصلحة العرب، حتى وإن أتى في سياق اجتهاد لا شك في حسن نية أصحابه، ذلك أن العرب لا يمكن أن يكونوا طرفاً قوياً وسيداً في أية معادلة إقليمية تكاملية ما لم يدخلوها موحدين وبمشروع عربي طموح على غرار المشاريع الأخرى المتنافسة في المنطقة.
وبعيداً عن اكتمال الصورة والمشهد الأخير الذي سوف ترسو عليه زلازل المنطقة، فإن الرجعية العربية سوف لن تحصد سوى الخيبة في كل الاحتمالات، فامتداد أذرع التغيير في عموم المنطقة سوف يكنسها لأنها لا تلائم شكل الشرق الأوسط الجديد، وانكفاء رياح التغيير خصوصاً على العتبة الشامية سوف يطيح بها أيضاً، لأن دمشق سوف تعمل بعد الخروج من مخاضها معافاة على تشكيل شرق أوسطها المناسب، الذي لا مكان فيه لرجعية عربية شكلت على مدى قرن من الزمان حصان طروادة لكل غزو واحتلال قصد ديار العرب، فلنحبس الأنفاس ونحن نرقب انكشاف الغبار عن العتبة الشامية!
فالأصالة لا تغيب طويلاً، وصوت الحق لا ينكسر، وستكون الأصوات الحرّة الوطنية والعربية المستنيرة أمام لحظات مراجعة نقدية وحساب عسير، بعد أن ضيّعت ما أنجزه الروّاد، وتراخت في متابعة حركة الأجيال وتطلعاتها، وهي ترى اليوم تمدّد الرجعي واسترخاءه وادعاءه بالانتصار للعروبة وللحرية والتحرر والعدالة ومحاكاة لغة العصر، وتقدمه وسيطرته واستبداده المدعوم من الغرب، صديق إسرائيل أولاً وقبل أي شيء.
وهنا أسأل: هل لنا غير تاريخنا وكرامتنا، وعقائدنا، ومبادئنا، وثباتنا، وقوّتنا الذاتيّة، ومحبتنا، ووطنيتنا… من مخلّص؟!
لا أظن، ولا أرتجي. لذلك نحن ـ كافة القوى الوطنية والعروبية ـ مطالبون اليوم بجهود نوعية، نتجاوز فيها حالة ما يشبه الانكفاء. وجماهيرنا العريضة الواسعة على امتداد ساحات الوطن والأمة تنتظر جاهزةً، وقد تتجاوزنا. فهي لن ترض أبداً بهذا العبث الطالع… ولا بالتكاذب والنفاق الرجعي العربي.
فلابد من مراجعة نقدية جذرية للعلاقة مع الرجعية العربية المتصهينة، ووضع الاستراتيجية اللازمة للتصدي لها فكرياً وسياسياً باعتبارها صنيعة الامبريالية والحليف العضوي للصهيونية.
استراتيجية تقوم على الفصل التام بين الرجعية الحاكمة وبين شعبنا العربي في دول الخليج، وتراهن على دور هذا الشعب الأصيل في معارضتها وإسقاطها وتحقيق أهدافه وتطلعاته الوطنية والديمقراطية والقومية.