موضة «الجهاد السوري»…مغاربة محور المغرب – سورية بين الذهاب والإياب

موضة «الجهاد السوري»…مغاربة محور المغرب – سورية بين الذهاب والإياب

تحليل وآراء

الجمعة، ١٨ أبريل ٢٠١٤

يتذكر المرء وهو يقرأ عن «أسراب المجاهدين» إلى سورية، لقطات فيديو قصيرة لمستشار الأمن القومي الأميركي زبيغينيو بريجنسكي على عهد الرئيس جيمي كارتر، وبُثت في حينها عبر وسائل الإعلام الأميركية ويظهر فيها بريجنسكي محاطاً بعدد من «المجاهدين» على الحدود الأفغانية الباكستانية يدعمهم ويعدهم بأنهم سيسترجعون أملاكهم لأنهم «مؤمنون بالله». في حقيقة الأمر، كان ذلك بداية لما عرف في ما بعد بـ»الجهاد الأفغاني» الذي هندسه بريجنسكي لمنع السوفيات من التوغل في آسيا عبر الرسملة على عقائدية «المجاهدين» الذي استقدمت من مختلف أنحاء العالم لمجابهة «الشيوعيين» آنذاك. ولعلّ السنوات الثلاث الماضيات جعلت سورية مسرحاً شبيهاً بتلك الحالة، بحيث يتدفق «المجاهدون» إلى الداخل السوري من كل حدب ينسلون، والمغرب كان له حظه من عملية الضخ تلك التي أنجبت «جهاداً سورية»، فكيف تم الأمر وما هي ارتداداته الآن مستقبلاً؟
من المغرب إلى سورية
يتبنى المغاربة الذين يقاتلون في سورية مفهوماً للجهاد يتطابق مع مفهومه لدى الوهابية وتنظيم «القاعدة»، فهم ينتمون في معظمهم إلى تكوين نفسي وفكري واحد، ويعتقدون أنهم يشاركون في معركة وردت في نبوءة «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق» وهي منطقة قرب حلب. توصيف في حديث نبوي يحكي تفاصيل معركة يكون فيها المسلمون حلفاً مع «الروم» ضدّ «الكفّار». هؤلاء المتدفقون على سورية يعتقدون أنها بشائر الحرب المقصودة، لذلك يعمل شيوخهم على اعتبار الناتو امتداداً عرقياً للروم، ومثلما كان الروم حلفاء للمسلمين في زمن البعثة سيكونون حلفاء لهم في آخر الزمان. وزيادة على ذلك يعتقدون أنهم يقاتلون أيضاً حاكماً «علوياً نُصيرياً» وحليفا للفرس «المجوس». لذلك فالجهاد واجب، خاصة أنهم يعتقدون أيضاً أن هذا الحاكم علاوة على ذينك السببين هو حاكم «طاغية» يقتل شعبه المسلم ومن واجبهم نجدة الشعب بقتال هذا الحاكم، وهم مثل شيوخهم يعطون أنفسهم حقاً استثنائياً في تقرير تلك التأويلات للنصوص وللواقع، ضاربين عرض الحائط بما يخالفها.
المغاربة الذين يتوجّهون إلى سورية يُلقّنون بهذه الأفكار وما يتفرع عنها لرفع استعدادهم للقتال، شأنهم شأن آخرين قادمين إلى معسكرات التدريب الموجودة سواء على تراب سورية أو على أراضي بعض بلدان جوارها الجغرافي. وتُقدر معظم مراكز الأبحاث المتخصصة أعداد المغاربة الموجودين في مختلف جبهات القتال في سورية بنحو 4000 شخص من مغاربة أوروبا ومغاربة الداخل، وبدأت أعدادهم تتزايد باطراد منذ مطلع سنة 2012. التحق المغاربة في البداية بجبهة النصرة التي يقودها أبو محمد الجولاني، ثم بعد الإعلان عن تأسيس «دولة الإسلام في العراق والشام» المعروفة اختصارا في الإعلام بـ»داعش» في نيسان 2013 التحق عدد من أولئك المغاربة بالتنظيم المذكور. لكن «الزخم و التميز» الذي سيجنيه المقاتلون المغاربة سيتضح بعد تأسيس حركة شام الإسلام على يد إبراهيم بنشقرون الذي كان معتقلاً سابقاً في غوانتنامو ولقي حتفه في الأيام الماضية مع عشرات المقاتلين من الحركة في ريف اللاذقية، عقب تداعيات معركة كسب شمال سورية.
لا شك في أن شبكات التجنيد كانت ولا تزال تجري في أماكن معروفة في المغرب، بحيث تنشط تلك الشبكات في مدن كبرى مثل الدار البيضاء وسلا، وفي مدن إسبانية واقعة على التراب المغربي مثل مدينة سبتة التي شهدت تفكيك ما عرف السنة الفائتة بـ»خلية سبتة» بتعاون استخباراتي مغربي ـ إسباني. لكن الملاحظة الأساسية في ذلك كله تتمثل في كون المغرب يقوم خاصة في الآونة الأخيرة- بتعاط مزدوج مع تلك العمليات، بحيث أن ذهاب المقاتلين المغاربة إلى سورية كان يتم غالبا بعلم أجهزة الاستخبارات المغربية، فهم كانوا في الغالب يغادرون عبر المطارات المغربية إلى تركيا ثم يعبرون إلى سورية بتسهيل من الاستخبارات التركية، وهم معروفون غالباً لدى أجهزة الاستعلامات المغربية بميولهم الدينية المتشددة أو بسوابقهم كما هي الحال بالنسبة إلى إبراهيم بن شقرون. لكن كان في الغالب يسمح لهم بالمرور للتخلص منهم من جهة، ومن جهة ثانية لأن المغرب رغماً عنه وبحكم موقعه من خريطة النظام الدولي منخرط في حلف تسخين جبهات الحرب السورية، التي رُسم لها هدف تدمير الدولة السورية باستثمار أصوات المُطالبين بالتغيير المشروع من حيث المضمون، وتحويل سورية إلى ساحة للاحتراب وإغراقها في الفوضى لتوليد معادلات جيبوليتيكية جديدة تخدم المصالح الجيواسراتيجية للحلف الذي يقود الحرب بجميع تمظهراتها. وكان احتضان مراكش لمؤتمر أصدقاء سورية في كانون الثاني 2012 تعبيراً واضحاً على ذلك الانخراط.
من سورية إلى المغرب
منذ انطلاق الأزمة في سورية تغيرت الكثير من الأمور أُجبرت غرف العمليات المختلفة على إعادة النظر في تكتيكاتها، كما وأجبرت الأطراف الدولية والإقليمية الراعية على إعادة النظر في استراتيجياتها وتكييفها مع النتائج الميدانية. مرت ثلاث سنوات ولم يتحقق الهدف ولم يسقط لا النظام ولا الدولة في سورية. بقيت المعارضات المختلفة على حالها بل ازدادت انقساماً. وما بعد معركتي القصير ويبرود ليس كما قبلهما. بناءً على ذلك كله، شرع العديد من المقاتلين المغاربة في سورية يعودون إلى المغرب، وازدادت مخاوف المغرب من تحول هؤلاء إلى خلايا نائمة مدربة على فنون القتال ومُعبأة بالأفكار المتطرفة ما يجعلها خطراً قائماً ومحتملاً على الأمن القومي المغربي، فخطورة المسألة تأتي من تداخلها مع قضايا أخرى مثل ملف معتقلي السلفية الجهادية على خلفية حوادث 16 أيار، بحيث أن السجن صار مكاناً للتعبئة الجهادية. ويأتي الخطر من وجهة نظر هؤلاء إلى الملكية في المغرب، ويرتبط بالتسهيل الذي حصل حديثاً أثناء التدخل الفرنسي في شمال مالي إذ منح المغرب طواعية أجواءه للجيش الفرنسي، فضلاً عن التهديدات الحقيقية التي تشكلها القاعدة في استراتيجية الجهاد المحلي التي بدأت عقب التدخل الأميركي في أفغانستان وأسفرت عن ميلاد «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». كلها أسباب تبرر تلك المخاوف، لكن ماذا عن التدابير؟
حديثاً صلى الملك خلف محمد الفيزازي أبرز شيوخ «السلفية» «التائبين»، ولعلها رسالة يوجهها القصر إلى من يحملون فكراً كذلك الذي جعل الفيزازي يوماً يحاكم بموجب قانون الإرهاب. لكن ذلك لا يعني أن المغرب يتسامح مع العائدين من هؤلاء من سورية، بل يرصدون فور وصولهم إلى المغرب ويُعتقلون ويُحقّق معهم ويقدمون إلى المحاكمة أمام المحكمة المختصة في قضايا مكافحة الإرهاب في سلا، ليتم بعد ذلك إيداعهم السجن لمدة تمتد من سنتين إلى خمس سنوات نافذة بحسب قانون الإرهاب. وبعض العائدين يعتبرون تائبين عن معركة جهاد في غير محله إذ اكتشفوا أنها عمليات إجرام مُمنهجة تستهدف أبرياء، لكن التعامل معهم لا ينبغي أن يكون أمنياً زجرياً صرفاً، فمن شأن ذلك أن يضاعف قابليتهم للعنف متى سمحت الفرصة.
ينبغي معاملة هؤلاء بشكل خاص تماماً، وإجراء عملية عزل تام لهم ووضعهم في بيئة خاصة ودمجهم في برنامج مكثف يشرف عليه اختصاصيون نفسيون ومتخصصون في علم الاجتماع وعلماء الفقه ومتخصصون في العقيدة والفكر، إذ ينبغي أن يكون واضحاً أن هؤلاء تمت لهم عملية غسل دماغ وجميع أفكارهم عن الدين والجهاد والمجتمع مشوشة بالقدر الذي يجعل منهم دبابات متنقلة قد تقصف في أي لحظة. ولعل المتخصصين في علوم النفس والاجتماع والعقيدة والفقه أكثر قدرة على إحداث تغيير نوعي في أذهانهم، شرط تعريضهم لاستراتيجية إكساب مدروسة تروم إعادة تأهيلهم بعد انتهاء عملية العزل المنتظمة.
حساب ختامي
في حقيقة الأمر، إن قضية نزوع الأشخاص نحو العنف الفكري ثم المادي معقدة، تتداخل في نسجها عدة عوامل، لكن في حالة هؤلاء الذين هم مستعدون «للجهاد» فحسب لأن «شيخاً» يثقون فيه أخبرهم عن مكان ينبغي أن يهاجروا إليه إذا أرادوا «شرف الدنيا ونعيم الآخرة»، وتشير بعض مراكز الأبحاث الأميركية إلى أن معظمههم يتقاضى أجراً كما هي الحال بالنسبة إلى المقاتلين في صفوف «داعش»، ومنهم من تتقاضاه أسرته نيابة عنه، وحتى الذين لا يتقاضون مقابلاً مالياً بل «يجاهدون» وفق مقتضى عقدي صرف هم في الغالب مُنحدرون من بيئات مثخنة بالفقر والأمية. إذن يتضح أن المشكل يكمن في الوضع الاقتصادي لهؤلاء الأشخاص، فالمغرب لا يخرج عما اعتبره في التسعينات صامويل هنتنغتون في كتابه «صدام الحضارات»: «قدرة سحرية للإسلام على تغذية أحلام الشباب المهمش في المدن العواصم الإسلامية الكبرى»، فالمغرب فاقد الرغبة والقدرة على بلورة استراتيجية تنموية حقيقة تبدأ بالتعليم وتنتهي به، مروراً بالأوضاع المختلفة الأخرى للمغاربة. وأشدد على أهمية التعليم لأنه ويا للأسف وحتى الساعة لم تتشكل في المغرب أجيال واعية بتراثها وقادرة على تمنيعه في وجه المشاريع الأخرى البراقة التي تتستر بالدين، والتي يغذيها الوضع الاقتصادي المزري للأغلبية وتعليمها المنعدم أو الضعيف، في حين تعمل بنية الحكم في المغرب على تكريس خطاب تأميمي رسمي للدين في صيغة باهتة وغير قادرة على الوقوف في وجه تلك الخطب التحريضية في الغالب. ما جعل الكثير من الشباب تحديداً يعتقدون أن «للجهاد» لا صلة له من قريب ولا من بعيد بالبعد الحضاري المقاصدي للإسلام الذي يسع الجميع ويدعو إلى عمارة الأرض لا إلى دقّ الأعناق.

باحث في سلك الدكتوراه في جامعة محمد الخامس، السويسي وفي الرباط