معنى المعنى! (2 من2)..بقلم: شادي العمر

معنى المعنى! (2 من2)..بقلم: شادي العمر

تحليل وآراء

الجمعة، ١٨ أبريل ٢٠١٤

إن العالم هو مجموع الأشياء الموجودة والواقعة بالنسبة إلى بعضها بعضاً «جانب- فوق- تحت- بعيد- قريب- كبير- طويل-... الخ»، أما الكلام فهو تسمية هذه الأشياء والعلاقات التي بينها بناءً على عمليات معقدة منها المقارنة والتعميم والتخصيص والاستدلال وغيرها كثير، تقوم كلها على الانتقال من «بسيط» إلى «مركب»، ثم يتحول «المركب الجديد» إلى  بسيطٍ لينتج «مركباً» أعلى منه، وهكذا دواليك..
يبقى جوهر الفعل الكلامي ذاته سواء في الكلام «العادي» أو «العالي»، وأقصد بالعالي مستوى الجنس الإبداعي الكلامي، كالشعر والقصة والرواية والفلسفة والعلم والخطبة والمسرحية. فالمبدع - المتكلم- يصبح مبدعاً للمعنى عبر إنتاج صور وعلاقات وأسماء ضمن منظومة من الجسد الكلامي، سواء كان شكله ملفوظاً أو مكتوباً، من خلال تركيبات لا حصر لها لمجموعات كبيرة من الأشياء ومن الأحاسيس والانطباعات التي تخلفها هذه الأشياء، ومن الأفكار التي تتولد عن هذه الانطباعات، يحدث ذلك كله ضمن تضافر عمليات معقدة من التخيل والتذكر والتشبيه والتصوير والتجريد والتعميم، وتستند هذه الأفعال كلها إلى عملية واحدة هي التركيب، والتي تنتج نصاً يُحكى أو يُكتب، فالقاص عندما يكتب قصته، سواء كانت حقيقية أو نسج خيال، ينتقل من الأشياء المباشرة وعلاقته بها وبالعلاقات التي بينها ليربطها كلها في رموز صورية أو صوتية (حروف مرسومة ترى أو أصوات تسمع) لتنتج كلاً مركباً مستقلاً له معناه، لم يعد مرتبطاً بالحوادث التي انتهت أو ربما لم تحدث في الأصل، ولا بالأشياء التي ربما لم تعد موجودة أو أنها ما وجدت قط. هكذا هي محاورات أفلاطون وقصائد امرئ القيس ومذكرات هتلر ومسرحيات شكسبير وروايات نجيب محفوظ ومعادلات أينشتاين. وفيها جميعها معنى مستقل عن معيار حدوثه أو عدم حدوثه. ذلك أن معيار صدق الكلام لا ينفي معناه أو يثبته. إنما ينفي أو يثبت حدوثه فقط.
إذا افترضنا أن الانتقال من الأشياء البسيطة إلى المركبة يكون كحركة سهم من الأسفل إلى الأعلى، فإن فعل التكلم هو التحرك المماثل لحركة السهم. وكل كلمة هي جزء يشارك في صنع المعنى في العبارة. والعبارات كذلك تتركب لتصنع الجملة، والجمل تصنع المقطع، والمقاطع تصنع النص كاملاً، والنص يصنع المعنى كاملاً. أما فعل الاستماع فهو العودة بحركة سهم معاكس من الأعلى إلى الأسفل، من الأشياء المركبة إلى ما هو أبسط منها حتى يحدث الفهم. إن عبارة «ملاعب الأسنة» لن يكون لها معنى عند مستمع لا يستطيع تحليلها إلى الأشياء والأبسط منها، وسينغلق الفهم عليه إذا لم يكن يعرف أن الأسنة هي الرماح، وأن العبارة إما تشير مجازاً إلى شجاع بارع أو حقيقة إلى واحد من الفرسان المهرة في استخدام الرمح في عصر سابق على عصرنا.
ولكن، لماذا لا يفهم المعنى كاملاً كما عناه المتكلم؟ أو يفهم أحياناً على النقيض تماماً فينتج عكس المقصود منه؟ شغلت هذه القضية الفكر البشري طويلاً، خاصة وأن معرفة أسبابها لا تفضي إلى إمكانية حلها. وربما كان الخير في عدم حلها. وتعود في أغلب الظن إلى أن كل متكلم وكل مستمع له عالم خاص من المعاني يقوم على خصوصية تجربته وإبداع انطباعاته القائمة على حواسّه وتمايز عملياته العقلية. من هنا يصبح كلام كل متكلم هو إبداع لمعناه الخاص به، واستماع كل مستمع هو إبداع في فهم المعنى فهماً خاصاً أيضاً. وهذا ما يشرع تعدّد القراءات واختلاف التحليلات وتطوير الأفكار وتصحيح الأخطاء. أيضاً قد يؤدي هذا إلى سوء الفهم وتناقض الأفكار واختلاف المصالح ونشوب النزاعات وقيام الحروب. فقد أبدع الإنسان الخير من المعنى ومن المعنى أيضاً أبدع الشر. وربما كان أصل الاثنين في اللغة، وفي المعنى الذي يريده المتكلم ويفهمه المستمع. فالإنسان حسب أرسطو ليس حيواناً يفكر وينطق فحسب، بل ويعني أيضاً، يعني إذا تكلم ويعني إذا استمع.