من يبرود إلى ساو باولو: رسائل أحمد إلى حنا .. بقلم: سمير عربش

من يبرود إلى ساو باولو: رسائل أحمد إلى حنا .. بقلم: سمير عربش

تحليل وآراء

الخميس، ١٧ أبريل ٢٠١٤

بين يبرود وساو باولو، صلة قربى تعود إلى مطلع القرن الفائت، حين راح عدد لا بأس به من رجال وشباب تلك البلدة القلمونية، يبارحون ديارهم إلى البرازيل، سعياً وراء لقمة العيش، وهرباً من الجور العثماني، وكانت هجرتهم متلاحقة حيناً، ومتقطعة طوراً.
أما يبرود.. فهي بلدة تغفو بوداعة، تحت سفوح جبال تيجانية نادرة، وسط منطقة القلمون المترامية الأطراف. ولئن عُرفت قبلاً، ببعض من رجالاتها السياسيين ومنهم: عبد السلام حيدر، صالح عقيل، وحتى الرئيس الأرجنتيني السابق، كارلوس منعم. ثم ببعض من أدبائها وشعرائها ومفكريها، ومنهم: أنطون المقدسي، وخالد البرادعي، والياس وزكي القنصل. فقد ذاع اسمها مؤخراً، إبان هذه الحرب المجنونة على سورية، إلى أن تم تطهيرها من المجموعات الإرهابية التكفيرية.
أما ساو باولو، التي كانت وما زالت، أهم المدن البرازيلية، فقد فتحت أبوابها للمغتربين السوريين واللبنانيين عامة، وأهل يبرود خاصة حتى أنها اشتهرت في العديد من مراحل الهجرة، بحي تجاري عرف بالحي اليبرودي، ناهيك عما ضمّته من صروح ثقافية وصحية ورياضية، أشادها المغتربون، وما زالت حتى الآن، شاهدة على كدّهم، واندماجهم في مجتمعاتهم الجديدة، دون أن يفارقهم الحنين إلى الوطن الأم، الذي زاد من مرارة غربتهم.
أما أحمد.. فهو واحد من أهالي يبرود، التي لم يبارحها حتى وفاته. وقد جمعته صداقة حميمة مع حنا وهو من يبرود أيضاً، قاسمهما المشترك عاهة مستديمة لحقت بالأول منذ الولادة، وبالتالي جراء سقوطه عن ظهر دابة شموس، فكانا على وحدة حال، مع قصر قامتهما، وكانا.. من الجادين في الانكباب على ثقافة ذاتية من عيون الكتب التاريخية والأدبية ميزتهما بالوعي المبكر.
أما حنا.. فهو الشقيق الأصغر لوالدي، أي إنه عمي، وقد اضطر في مطلع شبابه للسفر إلى لبنان، ثم إلى البرازيل حيث حلّ في بيت شقيقه الأكبر، أي عمي الثاني، وبعد سنوات طويلة، عاد إلى الوطن في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، حاملاً معه رسائل أحمد التي كانت تصله إلى لبنان فالبرازيل، وقد سمح لي بالاحتفاظ  بها بعد رحيله عن هذه الدنيا، في مطلع الستينيات.
عذراً.. عن هذه المقدمة التي أردتها مدخلاً للحديث عن تلك الرسائل التي أعود لقراءتها كلما شعرت بالضيق، حيث أجد فيها متعة لا توصف. فهي أولاً، مكتوبة بحبر الكوبيا ذي اللون البنفسجي بريشة خشبية طويلة، تنتهي بريشة معدنية صغيرة وكنا نشتريها مع دواة الحبر أيام دراستنا الابتدائية، قبل ظهور قلم "الستيلو" ثم قلم الحبر الناشف.
أما السبب الثاني لمتعتي، فهو أن كاتبها كان حريصاً، على تجزئة كل رسالة إلى عدة أقسام تحت عناوين فرعية متنوعة منها: سياسة، أدب، مجتمع، طقس.. الخ.
ففي السياسة كتب أحمد: معلومك يا حنا، أن شعبنا عانى الكثير من الاستعمار الفرنسي، ولكن كنْ على ثقة أن المستقبل القريب، سيلقن فرنسا درساً قاسياً، وقاسياً جداً.
وفي رسالة ثانية: بدأت تقوى شوكة الإخوان المسلمين.. بزعامة السباعي، وهو حزب كما تعرف أسـّسه الإنكليز. لكن حزب البعث والقومي السوري، وطلاب الجامعة، يتصدون له بقوة منعاً لانتشاره وبخاصة في الغوطة.
وتحت عنوان الأدبيات كتب أحمد: بالأمس اختليت في غرفتي لمطالعة كتاب مع المتنبي لطه حسين الذي جاء في الإهداء كلمات رقيقة إلى زوجته التي قرأت له ودفعته إلى الترويح عن النفس.. وهنا تساءلت يا حنا، ترى لو لم يكن متزوجاً من هذه المرأة الراقية، فماذا كان مصيره.
وفي المجتمع، لا يترك أحمد شاردة أو واردة في البلدة إلا ويسردها للعم حنا، الذي حين قدم إلى يبرود، كان على معرفة بكل أخبارها، لكأنه لم يغادرها أبداً.
تلكم لمحة عن رسائل، تحوي نفحات عن الشارع السوري، حيث كان الوعي السياسي على أوجه.
أخيراً.. أسوق ملاحظة فيها الكثير من الطرافة، وهي أن أحمد، كان يذيِّل رسائله بما يلي:  صدرت عن غرفتي بتاريخ كذا.. الساعة الرابعة عربي.