حوار مع العلامة محمد سعيد رمضان البوطي

حوار مع العلامة محمد سعيد رمضان البوطي

تحليل وآراء

الخميس، ١٧ أبريل ٢٠١٤

عبد الرحمن الحلبي
يذكر تلامذة المرحوم البوطي ومريدوه أن إذاعة دمشق كانت السباقة إلى تقديمه إعلامياً ضمن ندوات جماهيرية أقامتها له في كاتب وموقف منذ مطالع سبعينيات القرن العشرين حتى النصف الثاني من ثمانينياته، وقد أقيمت الندوات في كل من المركز الثقافي العربي بدمشق –أبو رمانة- وفي مدرج الجامعة المشرف على كل من التكية السليمانية والمتحف الوطني، اختتم معدّ ومقدم تلك الندوات لقاءاته في هذا الحوار الصحافي الذي أجراه مع العلامة البوطي مساء يوم السبت الواقع في العاشر من شهر شباط سنة 1990 في منزله الكائن في ساحة شمدين من دمشق، ولم ينشر أو يذع في أية وسيلة إعلامية سورية. ولأن القضايا المثارة في الحوار، قديمة /جديدة/ وتتجدد، ننشره الآن في "الأزمنة" للتذكر والذكرى.
فقد أعلن مجري الحوار- منذ البدء- أنه لا يحمل أسئلة تخصصية ترقى إلى مستوى علم العلامة د.محمد سعيد رمضان البوطي في اختصاصه، وإنما هي أسئلة استفسارية، وكل صيغها جاءت بهذا القصد. الدكتور البوطي أستاذ علم أصول الفقه في كلية الشريعة بجامعة دمشق، واستلم عمادة هذه الكلية غير مرة. صنّف حتى الآن تسعةً وعشرين كتاباً؛ أحدثها من حيث النشر كتاب "السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي". وسؤالنا هو:

لماذا البحث في "السلفية" وما المانع - في عرفكم- من اتخاذها مذهباً أو سبيلاً، وهل ترون أن تمذهبها يؤثر في مسيرة الإسلام؟
- لو أن الذين يتبنَّون ما يسمى بالفكر السلفي يرونه مذهباً كالمذاهب الأربعة، تجتمع تحت مظلة منهج واحد، ويتحد الجميع في مسير الاجتهاد التي يثاب الجميع عليها – سواء كانوا مصيبين أو مخطئين- لما كان في هذا المذهب ما يضير ولما كان لي أن أُنفقَ الوقتَ الذي أنفقت في تأليف هذا الكتاب. لكن أصحاب هذا النَهج يرون أن الحق يتمثل في نهجهم، فمن اتبعه فهو مسلم ومن نأى عنه فقد جانب سبيل الهداية. وأنت تلاحظ أن هذا التصوّر خطير جداً ويتناقض مع مبدأ توحيد الناس وجمعهم ولمهم من شتات وجلبهم إلى محور من العقيدة الصحيحة والفكر الواحد والموحّد.
نحن الآن بأمس الحاجة إلى أن يلمّ المسلمون شعثهم، وأن يتّحدوا بعد تفرق. فما بالك بمن يضيف إلى هذا التفرق الذي تعاني منه الأمة الإسلامية، شريحة جديدة يقتطعها من جسم الأمة الإسلامية ويؤكد في كل مناسبة أن المسلم الصادق في إسلامه هو ذاك الذي يلتزم نهج ما يسمّى اليوم بـ "السلفية" وأن الآخرين ضالون أو مشركون أو مبتدعون أو ربما "زنادقة". أظن أن هذا أمر خطير، وإذا أردنا أن نسير على منهج الكتاب ومقتضى السنة وأن نبتعد عن البدعة فلا شك أن هذا الاختراع لهذا الاسم، واقتطاع شريحة من جسم الأمة الإسلامية، أول بدعة خطيرة تبرز في هذا العصر ينبغي معالجتها فهذا هو الذي دفعني إلى كتابة هذا المؤلف. ولعلك لاحظت أنني لم أنتصر في مؤلَّفي هذا لرأي دون رأي، ولكني ركّزت على شيء واحد هو أن المنهج الإسلامي أوسع من أن يُضيِّق ثم يُضيِّق بحيث لا يتسع إلا لهذه الآراء الاجتهادية الواحدة.

قبل كتابكم "السلفية" قرأنا لكم كتاباً بعنوان "اللامذهبية" أكدتم فيه ضرورة الاقتداء بمذهب. واللامذهبي- من وجهة نظركم- هو إمّا شاذ أو صاحب بدعة. لماذا إذن لا تُقرّون وجود مذهب اجتهاديّ آخر يضاف إلى المذاهب الاجتهادية الإسلامية؟ ثم ألا تلاحظون أن التمسك بمذهب بعينه هو تكريس لاجتهادات صاحب هذا المذهب دون غيره من المجتهدين؟.
- أعتقد أن في الإجابة عن السؤال الأول ما يلقي نوراً على الجواب عن هذا السؤال، ذلك لأنني أعود فأقول لك يا أستاذ عبد الرحمن لو أنّ الذين رفعوا شعار السلفية اعتبروا أنفسهم مجتهدين في أمور خاضعة للاجتهاد، وأنهم يتّخذون أماكنهم مع سائر المجتهدين الذين خلَوا من قبل، أو الذين يجتهدون اليوم، وساروا طبق منهج أولئك المجتهدين السابقين، لا يكفّر مجتهدٌ مجتهداً ولا يضلّل صاحب مذهب مذهباً آخر، لباركنا هذا السعي ولَوسعَنا أن نقبله ونشكر القائمين به، بل أزيدُك أنني لست ممن يدعو إلى أن يفسر الإسلام بمذهب اجتهادي واحد في ما هو داخل في أمور الإسلام وإنني أدعو كلَّ عالم وكلَّ باحث إلى أن يتعمق بدراسته وأن يأتينا بالجديد الذي لا يندُّ ولا يشذُّ عن المنهج الاجتهادي، وللمسلمين في ذلك خير، وهو مظهر من مظاهر السّعة والرحمة الإلهية. لكنني أرى أناساً يفسرون الإسلام الأساسي الذي لا يخضع للاجتهاد والذي ينبغي أن ينقاد له الناس جميعاً بعلمائهم وعامّتهم وجهالهم يفسّرونه بطريقة واحدة هي الطريقة التي ابتدعوها في هذا العصر، والتي أطلقوا عليها اسم "السلفية" بحيث أنهم يعتقدون ويصرون أن كلّ من لم يدخل معهم في هذا السبيل هو بعيد عن الإسلام، تائه عن صراط الله عزّ وجلّ. إذن هؤلاء لا ينادون بالآراء السلفية كمجموعة مسائل اجتهادية؛ كأن يقولون "نحن اجتهدنا وأنتم أيها الناس اجتهدوا، فإن اتّبعتمونا فقد اجتمع رأيُنا على حق واحد وإن خالفتمونا الرأي فأنتم مثابون ونحن مثابون، والله أعلم مَن منّا المصيب ومن منّا المخطئ" ليت أنهم فسّروا مسيرتهم على هذا النهج إذن لباركنا سعيهم ولتعاونا معهم، ولكنّ الأمر مع الأسف، كما تلاحظ، لا يسير على هذا المنوال أبداً.

"النهج الاجتهادي" هل له مقوّمات؟
- النهج الاجتهادي له ضوابطه وشروطه ومجاله. مجال النهج الاجتهادي في المسائل الظنية التي تواردت عليها أدلةٌ متقابلةٌ محتَملة، فكان لابد من بذل جهدٍ علميّ خاص لإدراك مُراد الله سبحانه وتعالى من هذه الأمور والمسائل والنصوص الدالة عليها. هذه المساحة الخاصة بالأمور الاجتهادية. ضوابطها وشروطها هي أن يكون المجتهدون قد درسوا الشريعة الإسلامية دراسة معمّقةً وارتفعوا من ذلك إلى شأو الاجتهاد، إلى درجةٍ تؤهلهم للاجتهاد. وأهم ما ينبغي أن يكونوا قد تحلّوا به ما يسمّى بقواعد تفسير النصوص، وهو العلم الأول الذي لابد من الاستفادة منه والتطلع فيه للوصول إلى مرتبة الاجتهاد.
طبعاً بمثل هذه الحالة لابد للعالِم أن يجتهد، ولكنّ اجتهادك واجتهادي واجتهاد الآخر لا يفرّقُنا لأننا جميعاً نتحرّك ضمن دائرة منهج واحد. وأنا ركّزت في هذا الكتاب "السلفية" على بديل، ودعوت إخواننا الذين ينادون بـ "السلفية" إليه أن يجتمعوا تحت سلطان هذا المنهج، منهجِ الدراية بمعرفة النصوص والأخذ بها والوصول إلى حكم الله عزّ وجلّ الذي يتراءى من خلاله: هذا المنهج هو الميزانُ المحكَّمُ، وضمانةُ الاتحاد، والحِصن الذي يقينا عن التفرق. وعندما نجتمع تحت سلطان هذا المنهج، فإن هذا الاجتماع سيجعلنا أمّة واحدة فعلاً، وننطلق من مبدأ واحد فعلاً، وهو المبدأ الذي يُسمّى أهلُه - منذ عصر السلفية إلى اليوم- بأهل السنة والجماعة، وهي تسمية تنبثق من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هناك شق آخر لسؤالي يتعلق بمسألة التمسك بمذهب بعينه ألا يكون تكريساً لاجتهادات صاحب هذا المذهب دون غيره؟
- لا شك أن التركيز على مذهب واحد والتعصّب له والدعوة إليه تكريس بدون موجب وبدون دليل من كتاب أو سنة لمذهب واحد لا نجد داعياً إليه إلا العصبية. وأنا أعوذ بالله من أن أكون واحداً ممن يدعو إلى مثل هذه العصبية. فأمامنا مذاهب أربعة لكنّها لم تتحرك ولا تتحرّك إلا في دائرة مذهب واحد، فلذلك كان إمام كل مذهب يقدّر الإمام الآخر أجَلَّ تقدير. فأين هذا مِمّن يُكَفّرُ ويُضلّلُ ويُشرّك؟.

قرأت كتاباً يبحث في الفقه من وجهة نظر خمسة مذاهب أولها مذهب الإمام جعفر الصادق(ر) وعلمت أنه كان أستاذاً لواحد أو أكثر من أصحاب المذاهب الأربعة المعروفة فما رأيكم؟
- أنا أزيدك أنني لستُ ممن يحصر المذاهب الاجتهادية في الأحكام السلوكية في خمسة مذاهب، أنا أراها أكثر من خمسة مذاهب. مذهب الإمام الأوزاعي، مذهب الليث، مذهب الإمام الشعبي، مذهب الحسن البصري، وأئمة آخرين. الشرط الوحيد الذي لابد منه لاتّباع مذهب من هذه المذاهب أن نجد أنفسنا أمام جسرٍ يوصلنا بذلك المذهب؛ جسرٍ من الرواية العلمية التي تجعلنا على يقين من أن ذلك الإمام أولى بهذا الرأي، أو تبنيّ هذا الاجتهاد.
الإمام جعفر الصادق والإمام محمد الباقر- والد جعفر الصادق- من أئمة الاجتهاد الأفذاذ، والإمام جعفر الصادق كان أستاذاً للإمام أبي حنيفة ولغير أبي حنيفة أيضاً، ومنذا الذي يتأبّى على الآراء الاجتهادية التي قال بها أمثال الإمام جعفر الصادق وقبله الإمام محمد الباقر، والحسن البصري وآخرون؟
فقط أكرر التذكير بشرط واحد لابد منه، وهو أن أجد نفسي أمام منهجٍ علميّ في الرواية يؤكّد أن الإمام جعفر الصادق قد قال فعلاً هذا الرأي وقد أخذ فعلاً بهذا الاجتهاد فعندما أجد الرواية صحيحة آخذ به، لكن عندما لا أجد المستند العلميّ الكافي لصحة الرواية فأنا لا آخذ به حتى ولو كان وارداً عن الشافعي أو أبي حنيفة أو مالك أو أحمد، لا لأنني لا أقدّر إمام المذهب، ولكن لأنني لم أعثر على جسرٍ من سند علمي يوصلني بإمام ذلك المذهب.
                                                                                  ( يتبع...)