صدر ابنة وحياة أب.. لوحة وخلود..بقلم: إسماعيل مروة

صدر ابنة وحياة أب.. لوحة وخلود..بقلم: إسماعيل مروة

تحليل وآراء

الأحد، ٦ أبريل ٢٠١٤

لجهل مني وعدم متابعة لم أشاهد من قبل اللوحة الساحرة، ولم أسمع قصتها المدهشة غاية الإدهاش، وربما من حسن الحظ أنني لم أقف عندها من قبل، مما فيها وقصتها قد أستنكرها في حقبة سابقة من العمر، خاصة عندما لم أكن قادراً على تحديد مساحة للرؤية الموشورية الواسعة.. ولكن ها أنذا أراها مجدداً، فأقرأ هلع العينين والخوف من مصير ينتظر، وأحدد معالم العبور إلى عالم من حلم يسع كل شيء، ولا يرى أمامه متسعاً فوق النظر المدهش إلى الآخر، والذات المحاطة بألق الموت وانتظار المقصلة وساعة الفراق والوداع.. ومن الفطنة وحسن العمل أن يدوّن الكاتب قصة اللوحة، هذه القصة التي تخرج اللوحة من إطار العام غير المدهش إلى إطار الخاص الأمومي والأبوي، وأزيد على ذلك فأقول في إطار الحياة والمثيولوجيا والعقيدة.. الأب ينتظر حكم الإعدام الذي سينفذ وبأي طريقة نفذ لا يهم، المهم أنه سينفذ وقد صدر، والفاصل بين الحياة والموت ساعات لا أكثر، وحين تشتد قسوة السجان يحرم السجين المحكوم الذي ينتظر لحظة عناق المقصلة متعة الموت مرتوياً، حينذاك يتلوى المقبل على الموت ويستعد للموت مرتين، مرة عطشاً وشوقاً لقطرة ماء تجعله يتقدم بثقة وقوة إلى موته، فهو لا يريد الموت زحفاً أو حبواً، بل يريد أن يذهب إلى موته مشياً، ومرة أخرى يموت مغادراً عالماً لم يستطع استيعاب روحه التائقة لحياة مختلفة للغاية..
عندما يركب السجان عناده، ويمنع المحكوم بالإعدام من شربة ماء تحييه ولا تبقيه، يستعد السجين ليموت قبل الموت، ومن حسن حظه أنه في مكان لا يحتمل أن يبول أخوه في فمه ليقتله بملحه وأخوّته، لكنه في مكان لا يعنيه أن يموت أكثر من مرة قبل عناق المقصلة أو سواها.. تقول الحكاية، والحكاية ليست أسطورة، ولا تنتمي للأسطورة بخيط، إلا إذا انزعجت الميثولوجيا، وتحرك الناموس الذي لا يعنيه إلا الموت القدري لذي يجب أن يكون مترصداً متربصاً، وما علينا إلا أن نهلل للموت القادم إلينا من كل صوب.. تقول الحكاية: نزلت النقطة من ظهره، فكانت ابنة، ولم تكن ابناً، لم يحزن الباريسي لأنه ينتظر ولداً يرثه، بل فرح بها كثيراً، أعطاها روحه وإباءه، وانتظر لها أن تكون ابنته التي تحبه وتحنو عليه، لم يفكر بما يريد السيد فرويد عن عقدة حب الفتاة لأبيها، هذا الحب المحرم لأنه يُفسر جنسياً، ولا يرى المحللون أنه بإمكان الحب إلا أن يكون فراشاً.. وتتابع الحكاية كبرت الفتاة، صارت الفتاة أماً، وصار أبوها محكوماً بالإعدام.
طفر الحليب في صدرها.. زاد عن حده، صار لديها الكثير من الحليب..
أرادت أن تشكو لأبيها مما تعانيه، لم يكن الأب قادراً على أن يسمع أو ينصح، ولا تريد أن تقول إلا له، عانقت مقصلة روحها، طوت صفحات الميثولوجيا، ألغت القوانين، لم تستمع لأي مقدس، غذّت خطاها إليه، هل تدركه؟
هل تراه؟ هل تعانق مقصلته؟ هل تحمل رأسه؟ هل تمسد رأسه؟
لم تدر ما ستفعل، لكنها تريد أن تراه.. قصدته، وأمام السجان تلوّت، فكانت أماً، وكانت أنثى، وكانت شهوة غير محدودة، لم يستطع السجان أن يفعل شيئاً، انغمس في كل الأفاعي، وعاشر كل الإناث، وشرب غذاء الأمومة الطهور الذي غسل عهر السجن والسجان.
مال الأب برأسه، أراد أن يحيا، أراد ألا يموت
أسندت رأسه بيدها، جذبته إلى صدرها، روته بحليبها الذي كان عليه حراماً، حُرم الماء الذي يحتاجه، فكان حليب أمومة البنت كافياً لإعادة الحياة إلى عروقه التي تيبست وجفت، حب البنت الذي يدينه فرويد وعلماء النفس دفع الدم وماء الحياة في الأب.. غادرت البنت أباها، لم يعد صدرها يطفر الحليب منه، عادت ابنة صغيرة، لم تعد أماً، لم تعد أنثى، إنها ابنة عاشقة لحياة أبيها وحسب.. غادرت وقد غزلت المقصلات على أصابعها، وأحرقت حبال المشانق..
في الصباح لم يمت الأب
في الصباح قامت القيامة
في الصباح نجا الأب بأعجوبة من الموت
خرج سالماً يبحث عن أمومة وابنة هي الأم وهي الحياة في غياهب الموت وسراديب الفقد..
قطرة من صدر أم أعادت الوالد ليكون أباً شرعياً وغير محرّم..
صدق الحب.. فهو المحيي والمميت
قطرة ممن تحب، أو لا قطرة تعطيك حياة مختلفة لها طعم ولها رائحة سماء مختلفة
كانت قطرة الحب أعلى غذاء، أهم بكثير من ماء يخرج من جبل، إنه حب يصدر عن قلب ومن قلب..
شكراً لقطرة أو لا قطرة تعيد الحياة وتنجي المقصلة من اغتيال أحلام الأعناق..
أما من قطرة حب في أرضنا؟
أم أننا نفضل الناموس والموت على ما يبدو؟!