الدبلوماسية الأميركية في طور الاحتضار.. بقلم: وليد شرارة

الدبلوماسية الأميركية في طور الاحتضار.. بقلم: وليد شرارة

تحليل وآراء

الجمعة، ١٩ أبريل ٢٠١٩

الدبلوماسية الأميركية، كأداة رئيسية من أدوات السياسة الخارجية، في غرفة العناية الفائقة. صاحب هذا التشخيص هو ويليام بيرنز، سفيرها الأسبق لدى روسيا من عام 2005 إلى عام 2008، ومساعد وزير خارجيتها للشؤون السياسية بين عامي 2008 و2011، ونائب وزير الخارجية بين عامي 2011 و2014. من النادر أن يحظى دبلوماسي أميركي بإطراء كذلك الذي حظي به بيرنز من قبل كبار مسؤولي الإدارة الأميركية ووسائل الإعلام. أجّل هذا الأخير قرار تقاعده مرّتين، بطلب من وزير الخارجية آنذاك جون كيري في المرة الأولى، وبإلحاح من الرئيس السابق باراك أوباما في المرة الثانية. بين الإنجازات الأميركية في ميدان السياسة الخارجية التي تنسب له، دوره في دفع ليبيا لإزالة برنامجها العسكري السرّي وفي بناء قناة التفاوض السرّية الثنائية بين الولايات المتحدة وإيران، التي سهّلت التوصّل إلى الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني عام 2015. يضاف إلى سلسلة الإنجازات، نجاحه في تحسين العلاقات مع روسيا خلال رئاسة أوباما الأولى وتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والهند. قال عنه جون كيري إنه «رجل دولة من طراز جورج كينان (السفير الأميركي الأسبق في الاتحاد السوفياتي الذي ساهم في بلورة استراتيجية الاحتواء) وهو يستحق بامتياز موقعه على اللائحة القصيرة جداً لأساطير الدبلوماسية الأميركية». أوباما، بدوره، أكّد أن بيرنز «مستشار حاذق ودبلوماسي استثنائي ملهم لأجيال من بعده... البلاد أقوى بفضل خدماته». أحد «أساطير» الدبلوماسية الأميركية يرى اليوم أنها مهددة بالموت، وأن الحفاظ على موقع الولايات المتحدة كقوة دولية وثيق الصلة بنجاح مهمة إنقاذها أو فشلها.
القناة الخلفية
ينتدب ويليام بيرنز نفسه لمهمة شاقة في سياق فكري ــــ سياسي شديد الاضطراب، ناجم عن صعود العصبية الغربية البيضاء، التي أوصلت دونالد ترامب إلى الرئاسة، ورسوخ غطرسة القوة في أذهان النخب السياسية والعسكرية الأميركية، وهي محاولة إعادة الاعتبار لوظيفة الدبلوماسية وما يترتب عليها في العلاقات الدولية. ألّف لهذه الغاية كتاباً مهمّاً بعنوان «القناة الخلفية»، صدر هذه السنة، وكتب مقالاً يلخّص فيه أبرز أطروحاته في العدد الأخير من دورية «فورين أفيرز». هو يعرّف في كتابه الدبلوماسية بأنها «الأداة الرئيسية التي تستخدم لإدارة العلاقات الخارجية، والحد من التهديدات، واغتنام الفرص لتعظيم الأمن والازدهار. هي بين أقدم المهن، لكنها كثيراً ما تكون غير مفهومة... هي بطبيعتها مسعى غير بطولي، بل هادئ ودؤوب ويفضل القنوات الخلفية بعيداً عن الأنظار. من النادر أن يُحتفل بإنجازاتها وكثيراً ما يتم التركيز على إخفاقاتها. حتى إن أحد نجومها، هنري كيسنجر، قال عنها إنها مراكمة صبورة لنجاحات جزئية». بيرنز كان شاهداً لصيقاً بصنّاع القرار الأميركيين، خلال المرحلة التي بلغت فيها بلادهم أوج قوتها، أي مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، التي اعتقد الكثيرون، وهو أحدهم، أنها ستؤسس لهيمنة أميركية مديدة على العالم. السؤال في تلك الفترة لم يكن برأيه ما إذا كان على واشنطن اغتنام فرصة «اللحظة الأحادية»، ولكن كيف ولماذا: «هل على الولايات المتحدة أن تستخدم قوتها التي لا مثيل لها لفرض سيطرة أميركية شاملة، أم عليها، عبر الدبلوماسية، أن تصيغ نظاماً يتيح موقعاً للخصوم السابقين وحصة للقوى الصاعدة؟» عملت إدارة بوش الأب، من وجهة نظره، في الاتجاه الثاني في نهاية عهدها، لكن السياسات التي اعتمدتها الإدارات التالية، إدارة كلينتون وخاصة إدارة بوش الابن، نحت نحو الاتجاه الأول.
لا يستخدم بيرنز مفهوم «غطرسة القوة» لشرح خلفيات السلوك الأميركي في تلك الحقبة، لكن تحليله لكيفية اختراع مفهوم «الدبلوماسية القسرية»، ليحل في مكان الدبلوماسية التقليدية، يشي بإدراكه أن اللجوء إلى القوة العسكرية أضحى الخيار الأول. وهو يعتبر في مقاله أن الدبلوماسيين الأميركيين «خلال الحروب الطويلة في أفغانستان والعراق، انهمكوا في الهندسة الاجتماعية وبناء الأمم، وهي مهمات تتجاوز قدرات الولايات المتحدة أو أي قوة خارجية أخرى. فرض الاستقرار ومكافحة التمرد ومواجهة التطرف العنيف وغيرها من المفاهيم المضلّلة التي انتشرت في تلك الفترة أبعدت الدبلوماسية الأميركية عن مهمتها الجوهرية: اللجوء إلى التملّق والإقناع وأحياناً إلى الترهيب والتهديد لدفع حكومات وقيادات بلدان أخرى إلى اعتماد سياسات منسجمة مع المصالح الأميركية. بدت وزارة الخارجية في حالات كثيرة كأنها تحاول استنساخ دور وزارة المستعمرات البريطانية». وعلى الرغم من حرصه على التمييز بين عهد أوباما وعهود سابقيه، وإشادته ببعض الإنجازات الدبلوماسية التي تحققت خلاله كالاتفاق النووي مع إيران والتطبيع مع كوبا والشراكة العابرة للأطلسي واتفاق باريس حول المناخ، فإنه يلفت إلى أن الاستخدام المفرط للقوة استمر، في أفغانستان والعراق وبلدان أخرى، عبر عمليات القوات الخاصة والطائرات الموجهة، وما ينجم عنها من سقوط أعداد ضخمة من الضحايا المدنيين.
بقيت الأداة العسكرية تحتل الموقع الأوّل في خيارات صناع القرار الذين باتوا يميلون إلى استبعاد الدبلوماسيين المخضرمين خلال إدارة الأزمات واستبدالهم بمستشاري الأمن القومي والقادة العسكريين. لكن الوضع الأسوأ للدبلوماسية الأميركية هو ذلك السائد مع إدارة ترامب الحالية التي تمتلك تصوراً للعالم باعتباره غاباً، لا يرقى إلى مستوى التصوّر الاستراتيجي الجدّي، والتي تشرع في هدم كل منجزات الدبلوماسية الأميركية منذ عقود على الصعيد الدولي. وهو يتّهم الإدارة بأنها تعمل على إضعاف جهاز الخارجية عبر التخفيض الكبير لميزانيتها وتطهيرها بناء على معايير أيديولوجية، وأحياناً عرقية، من جميع العناصر الكفوءة و/أو المتحفّظة على سياساتها. أهمية هذه الشهادة أنها صادرة عن دبلوماسي مخضرم يحاول دق ناقوس الخطر في ظل احتدام الصراعات السياسية الداخلية الأميركية، وهي مؤشر إضافي على أن الولايات المتحدة كقوة دولية لم تعد تمتلك استراتيجية بالمعنى الفعلي للكلمة تسمح ببناء التحالفات والتوافقات الضرورية، بما فيها تلك الداخلية بين النخب، لوقف انحدارها المتسارع. أخبار مفرحة بين سيل من الأخبار المزعجة!