مجزرة نيوزيلاندا والجولان وانتخابات أردوغان.. بقلم: سركيس قصارجيان

مجزرة نيوزيلاندا والجولان وانتخابات أردوغان.. بقلم: سركيس قصارجيان

تحليل وآراء

الأحد، ٣١ مارس ٢٠١٩

لا يوفر «السلطان التركي» المأزوم سياسياً في الداخل على أعتاب الانتخابات المحلية فرصة، إلا ويحاول اكتنازها لإعادة إحياء صورته لدى جمهوره، كمدافع عن القضايا العادلة للمسلمين، فكانت أحداث نيوزيلاندا وقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بحق الجولان أرصدة مجانية جاءت في الوقت المناسب بعد استهلاك رصيد القدس والقضية الفلسطينية سابقاً.
في الوقت الذي رفضت فيه رئيسة وزراء نيوزيلاندا ذكر اسم الإرهابي حتى، مطالبة بذكر أسماء الضحايا فقط، وجد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في فيديو مجزرة المسجدين فرصة ذهبية لمواصلة «البروباغاندا» الانتخابية لائتلافه، عبر خطاب شعبوي يروق لمؤيديه سماعه من التيارين الإسلامي والقومي المتطرفة بعد مخاوف من تراجع تأثير الوسائل السابقة من وعود اقتصادية و«عنتريات» عسكرية على أصوات الناخبين.
انتخابات محلية لتحديد رؤساء البلديات والنواحي تحولت إلى ما يشبه «الحرب الوجودية» حسبما أعلنه أردوغان مراراً وتكراراً، بتأييد من حليفه زعيم الحركة القومية دولت باهتشيلي، خلال جولاته المتواصلة التي يقوم بها شخصياً على الولايات التركية في مشهد لم تألفه تركيا قبل عهد الإخوان، محاولاً حشد الدعم لائتلافه وسط بيانات وإحصاءات لمراكز استطلاع الرأي تؤكد تراجع شعبيته واحتمال خسارته لعدد من البلديات الكبرى، ما ينذر بعواقب سياسية غير محمودة في أول اختبار بعد إقرار النظام الرئاسي، قد تودي في النهاية إلى انتخابات مبكرة.
اعتمد حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا منذ اليوم الأول لخوضه غمار السياسة قبل 16 عاماً على الخطاب الشعبوي والوعود الكلامية، التي أتت بنتائج «مذهلة» في بدايات دخوله المعترك السياسي، مستفيداً من «النشوة الاقتصادية» التي عاشتها البلاد نتيجة عوامل متعددة لسنا في مستهل شرحها هنا، مع التذكير بفاعلية الانفتاح على الدول العربية في الشرق الأوسط والخليج العربي على أساس لغة دبلوماسية مختلفة عما اعتاد الجوار على سماعه من أنقرة سابقاً، إضافة إلى الدعم المالي والإعلامي الذي وفره التحالف مع حركة «خدمة» بزعامة الداعية الإسلامي فتح اللـه غولن شريك الأمس وعدو اليوم.
اتسمت تلك الفترة بطغيان الجانب الاقتصادي على فحوى الخطاب الشعبوي للحزب الحاكم في جميع المناسبات الانتخابية، لما للاقتصاد من تأثير مباشر في حياة الناخب اليومية، الذي رأى في سياسات «العدالة والتنمية» السبيل للتخلص من عواقب التضخم وشبح إفلاس البلاد وإغراقها في الديون الملقاة على عاتق المواطن التركي عبر زيادة الضرائب وتراجع الدخل العام، فكانت لافتات الطفرة الاقتصادية مرفقة بصور أردوغان، تزين الشوارع والساحات مع كل استحقاق، قابله خطاب مفلس وصورة ذهنية اعتمدت على «إرث أتاتورك» المتراجع من المعارضة التركية المنقسمة بينها برئاسة «حزب الشعب الجمهوري» المترهل، أكبر الأحزاب المعارضة وأقدمها.
لكن مع مرور الوقت، وبدء الصورة الوردية للمستقبل بالتبدد، وتغير واقع التحالفات في الداخل والخارج، أدرك «السلطان العثماني» استحالة الاستثمار طويل الأمد للاقتصاد في المعركة الانتخابية، فكان لا بد من التوجه إلى حقل جديد أكثر ديمومة تمثل في إحياء أمجاد الإمبراطورية واستعراض القوة، وخاصة مع توافر الظروف الإقليمية المواتية.
ففي غزة بفلسطين بداية ومصر لاحقاً، «الأخوان» قبضوا على السلطة، وفي ليبيا وسورية باتوا على بعد خطوة، والمشروع الإخواني المدعوم من الدوحة يسير بنجاح في معظم الدول العربية، حتى تلك التي لم تشهد أزمات داخلية أو مسلحة بعد، وبما أن القدس «قضية كسيبة» دائماً وأبداً في الوجدان العربي والإسلامي وحتى الإنساني، فقد شكلت فلسطين والعداء المزعوم للدولة الإسرائيلية أساس السياسة الشعبوية للسلطان بدءاً من «مسرحية دافوس»، قبل انتخابات 2009 بشهرين، مروراً برفع سقف التهديد والوعيد العالي إبان مقتل المواطنين الأتراك في أحداث «سفينة مرمرة»، والتوغل العسكري في عفرين شمالي سورية، قبل انتخابات 2018 بعدة أشهر أيضاً، وصولاً إلى تبادل الشتائم مع رئيس وزراء العدو بنيامين نتينياهو قبل أسابيع قبيل الانتخابات المزمع إجراؤها اليوم الأحد، مقابل استمرار العلاقات الاقتصادية المتميزة بين أنقرة وتل أبيب التي يشهد الميزان التجاري بينهما تصاعداً سنوياً، إذ تحتل تركيا صدارة لائحة الدول الإسلامية من حيث التبادل التجاري مع تل أبيب، وتواصل العلاقات الدبلوماسية واللقاءات السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى المناورات العسكرية بين الطرفين «المتعاديين» قبل كل استحقاق انتخابي.
مسرحية ارتضت «إسرائيل» تقاسم بطولتها لطالما تنحصر تأثيراتها في الداخل التركي فقط، كما عبّر عنها العديد من القادة الإسرائيليين ومنهم وزير الاستخبارات والمواصلات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، الذي وصف السلطان التركي في حديث له لصحيفة «معاريف» الإسرائيلية بـ«الصديق العدو»، شارحاً بأن «إسرائيل» قبلت التعايش مع أردوغان، على الرغم من مسرحياته، لإدراكها بأنه يعتبر نفسه قائد الإخوان المسلمين في العالم ويحاول أن يقود العالم الإسلامي.
المشهد الأخير من مسرحيات أردوغان السياسية كانت من خلال مواقفه ورجالاته السياسية من فضيحة قرار ترامب المعارض لكل المواثيق والأعراف الدولية بالاعتراف بسيادة «إسرائيل» على الجولان السوري المحتل، حسب توصيف الأمم المتحدة، متناسياً العلاقات الاستثنائية والدعم منقطع النظير من كيان الاحتلال للميليشيات المتطرفة المدعومة من أنقرة خلال سنوات وجودها على طول الحدود مع الأراضي المحتلة، وتلقيها للدعم اللوجستي بكل تفاصيل هذا الدعم وكأنها على الحدود السورية التركية.
النظرة التحليلية للواقع التركي قبيل «الانتخابات المصيرية» تكشف عوامل قلق أردوغان من أي «مفاجئة» قد تعمق من مشاكله، فالرجل لم يتمكن من تحقيق أي من الأهداف السياسية التي لطالما جاهر بها منذ توعده بالصلاة في الجامع الأموي، تلته تهديدات اجتياح منبج وشرق الفرات والوعود بالقضاء على ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد» أو الثأر للحليف القطري عبر الإطاحة بولي العهد السعودي، وغيرها من الرهانات السياسية الخاسرة التي أوصلت تركيا إلى نقطة الـ«صفر جيران»، نقيض المعادلة التي أطلقها شريك الأمس وخصم اليوم أحمد داوود أوغلو المتمثل «بصفر مشاكل مع الجيران» الذي شكل في حينه أساس الانفتاح التركي نحو الشرق العربي بعد عقود من غياب دور تركي فاعل إقليمياً بفعل شعار أتاتورك الشهير مع تأسيس الجمهورية عام 1923 «سلام في الوطن، سلام في العالم».
أما في الاقتصاد فالجرح الأردوغاني يبدو أكثر ألماً في ظل الأرقام والمعطيات التي تشير إلى تراجعه والانخفاض الحاد في نسب النمو، والركود الصناعي وخاصة في مجال المقاولات عماد الانتعاش الاقتصادي في الأعوام السابقة، إضافة إلى مرور الليرة في أسوأ أزمة للعملة التركية منذ اعتماد صيغتها الحالية محذوفة الأصفار.
كل المعطيات السابقة لم تبق لأردوغان وحليفه من بديل سوى الخطاب الراديكالي و«المتاجرة» بمجزرة نيوزيلاندا الإرهابية، باعتبارها فرصة ذهبية لشد أعصاب الإسلاميين والقوميين على حد سواء فمن تهديد الحليف باهتشيلي، المتأزم بعد انشقاق شخصيات فاعلة في حزبه وتأسيسهم «الحزب الجيد» المصنف في جبهة المعارضة، والذي توعد «الصليبيين بإغراقهم في بحر دمائهم» إلى السلطان الذي توعد «بمحاسبة الإرهابي الأسترالي إن لم تقم بذلك نيوزيلاندا» وسط تهليل قاعدته الشعبية التي اعتادت التصفيق الدائم لتصريحاته، حتى المتضاربة منها، كما الحال في عداء إسرائيل ثم التصالح معها بعد تسوية قضية مرمرة مالياً، وتهديد موسكو والاعتذار منها لاحقاً بفعل الإجراءات الروسية الصارمة بحق أنقرة، والمطالبة بإسقاط الرئيس بشار الأسد والحديث بعده عن «قنوات اتصال مع القيادة السورية في مستويات دنيا» وغيرها الكثير من التناقضات.