خفايا واشنطن الاستثمارية في جغرافية الباغوز الضيقة.. بقلم: محمد نادر العمري

خفايا واشنطن الاستثمارية في جغرافية الباغوز الضيقة.. بقلم: محمد نادر العمري

تحليل وآراء

الأربعاء، ١٣ مارس ٢٠١٩

للمرة الثالثة على التوالي تعلن ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد» عودة التصعيد الناري والعسكري في بلدة الباغوز الواقعة بريف دير الزور الشرقي من الجغرافية السورية، حيث تصب هذه الميليشيات ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية وما يسمى «التحالف الدولي» جام غضبها وكامل جهودها وبمختلف أشكال الأسلحة حتى المحرمة دولياً كالفوسفور الأبيض للمسارعة في تحقيق هذا «النصر المؤجل» ضد تنظيم داعش الموجود في إطار لا يتعدى نصف كم2.
هذا النصر الذي تسارع إليه إدارة البيت الأبيض في واشنطن، تشوبه الكثير من الضبابية كما هو إعلان قرار الانسحاب، ويثير علامات استفهام من جوانب عدة وخاصة حول الصفقة التي أبرمت مع داعش ومصير القادة هناك وفي مقدمتهم أبو بكر البغدادي والصف الأول من قياديي التنظيم، والتوقيت الزمني الطويل الذي شهدته هذه المعركة، فضلاً عن أهدافها في إحداث تغير ديموغرافي لمصلحة «قسد» وتوسيع نفوذها أكثر في ظل التراجع الأميركي الواضح عن قرار الانسحاب.
فعودة النار لخط جبهة الباغوز يراهن عليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمنح نفسه النصر الكامل على «دولة الخلافة» وفق وصفه، بعدما عجز عن الإيفاء بوعوده المتكررة بإعلان هذا النصر في أكثر من مناسبة واستحقاق، الأمر الذي يشير إلى تمكن تيار من بعض صقور الإدارة الأميركية بالتدخل والتحكم بمسار معالم السياسة الخارجية في التعامل مع الأزمة السورية من خلال إعادة التموضع والانتشار وفق تعبير المبعوث الأميركي إلى الشرق الأدنى دايفيد ساترفيليد، وإدارة معركة الباغوز وما تحويه من خفايا لا يمكن وصفها بالطبيعية أو العادية، وفق وجهة نظر شخصية، لتحديد هذه المعالم وهذا التوجه باستثمار الإرهاب مجدداً لتحقيق أجندات سياسية أو كأداة في الحرب الناعمة انطلاقاً من هذه الرقعة الجغرافية الضيقة، ومقابلة مستشار الأمن القومي الأميركي مع شبكة «إيه بي سي نيوز» الأميركية، التي أكد فيها أن الرئيس ترامب «لم يقل أبداً أن القضاء على داعش إقليميا يعني نهايته بالكامل» مضيفاً إن داعش يتنامى في أنحاء أخرى من العالم، هو خير دليل على ذلك. وضمن هذا التوجه لابد من الوقوف عند النقاط والملاحظات الآتية:
1- تأخر حسم المعركة يصب في التوجه الذي يرسمه تيار جون بولتون ومايك بامبيو إضافة للفريق المكلف متابعة الملف السوري الذي يترأسه المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية جيمس جيفري، وهذا التوجه يهدف إلى إيجاد حل وسطي بين قرار ترامب بالانسحاب من سورية لإرضاء القاعدة الشعبية قبل عام ونصف من بدء الانتخابات الرئاسية التي يطمح للفوز بها للمرة الثانية ومؤسسات الدولة العميقة وجماعات الضغط الداعية للحفاظ على إبقاء النفوذ الأميركي بالمنطقة من خلال إعادة التموضع والانتشار للقوات الأميركية. لذلك لا يمكن فك الارتباط بين الأحداث المتعلقة بين تراجع ترامب عن قرار الانسحاب من سورية وإعلانه إبقاء 400 عنصر من قواته عما يحصل من إيجاد ممرات آمنة على الحدود السورية العراقية لإرهابيي داعش الذين خرجوا من منطقة الباغوز، ولخدمة هذا التوجه استخدمت واشنطن عدة طرق وأساليب لإخراج هؤلاء بما في ذلك توظيف مخيم الركبان لدمج الإرهابيين مع المدنيين وجعل محيطي الهول والركبان عبارة عن صناديق مفتوحة بين شرق العراق وغرب سورية لنقل الإرهابيين، لذلك تصر واشنطن بشكل خاص على رفض حل مخيم الركبان لأنه يشكل نقطة وصل جغرافية بين العراق وسورية وإيجاد ممرات آمنة لانتقال هؤلاء على الحدود وبغطاء أميركي من قاعدتي التنف والأسدي.
2- الملاحظ خلال الفترة السابقة هو نقل المسلحين والعناصر الداعشية من غير القياديين وذات الجنسيات الأجنبية، وبعضهم يعاني إصابات جسدية باتجاه العراق تزامناً مع ارتفاع أصوات وصراخ المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة أو المرتبطة بها والتي ترفع شعارات إنسانية وفي مقدمتها «هيومن رايتس ووتش» للمحافظة على حياة هؤلاء وعدم محاكمتهم بالإعدام بالتوازي مع رفض الدول التي ينتمون إليها وبخاصة الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا لاستقبالهم. وهذا يمكن تفسيره أو تحليله ضمن مسارات عدة، يتمثل أولها برغبة واشنطن بتعميق هوة الشرخ بين الفرقاء السياسيين في العراق وإغراق هذه النخب بالخلافات الداخلية لتعميق الأزمات التي تواجه حكومة عادل عبد المهدي، ثانياً زيادة الضغط المادي والأمني على العراق، عبر تحمل بغداد نفقات علاج هؤلاء وكذلك المحافظة عليهم وتحولهم في مرحلة لاحقة نتيجة عجزهم القتالي لقنابل موقوتة تهدد الأمن العراقي وتستهدف أمنه الوطني وفق ما ذكر موقع «ديبكا» الإسرائيلي، الذي أشار في تقرير له إلى أن واشنطن نقلت ما يقرب ألف عنصر داعشي للعراق بغرض استهداف القوات المسلحة التابعة لحركات المقاومة واستجلاب قوات أميركية من القواعد الأميركية في الخليج وبعض الدول الأوروبية وبصورة خاصة من رومانيا وبلغارية لحماية هذه العناصر في عملياتها على طول الحدود السورية العراقية، فضلاً عن اتخاذ الجغرافية العراقية إحدى نقاط انطلاق لاستهداف الأمن القومي الإيراني، كما حصل مؤخراً في استهداف حافلة تقل قوات من الحرس الثوري في مقاطعة سيستان بلوشستان، ترجمة لتهديد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان منذ عام ونصف العام تقريباً بنقل المعركة إلى العمق الإيراني، وجزء من هذا المشروع والمتعلق بزيادة القوات الأميركية كان في صلب زيارة مايك بامبيو للعراق مؤخراً.
3- من النقاط المهمة التي يجب عدم إغفالها، نقل الحوامل المرنة للإرهاب «النساء الداعشيات» اللواتي خرجن من الباغوز نحو مناطق آمنة، فالمتابع للتقارير ومقاطع الفيديو التي تبثها وكالات الأنباء الدولية ومواقع التواصل الاجتماعي يلاحظ خطورة هؤلاء في نقل أفكار داعش وغرسها في المناطق التي سيقيمون بها، فبينما تهدد إحداهن بالانتقام بقولها سننتقم وسيصل الدم إلى الركب تقول الأخرى خرجنا ولكن هناك فتوحات جديدة، وخطورة الداعشيات في هذا السياق تكمن في أن حركتهن في المرحلة اللاحقة تكون أسهل وأكثر مرونة، فهؤلاء أمهات لأطفال من المؤكد أنهن سيسارعن لتلقين أطفالهن الفكر الداعشي، فضلاً عن لعبهن دور المرشدات والمعلمات والملقنات للنساء الأخريات في المجتمعات التي سيقمن بها أو أن يتحولن لجهاديات إرهابية تمارسن الانتقام بعد قتل أزواجهن أو فقدان مصيرهم، أو انغلاق أفق الحياة أمامهن.
4- المتابع لمجريات المعارك منذ بدايتها في منطقة الباغوز يلاحظ أن التكتيك العسكري للولايات المتحدة الأميركية تضمن تطويق المنطقة وليس الاستهداف المباشر لمواقع تنظيم داعش، وهذا يعني أن واشنطن لم تكن تريد القضاء على هذا التنظيم بقدر ما كانت تبحث عن تحقيقه أهدافاً متعددة وتتمثل بــ:
– رغبة واشنطن في إخراج جميع عناصر التنظيم نحو مناطق أو رقع جغرافية أخرى وفرض أمر واقع على من يرفض منهم.
– محاولة إلقاء القبض على متزعم التنظيم البغدادي أو تصفيته، واستثمار ذلك ضمن نموذج متكرر عن مقتل أسامة بن لادن.
– رغبة الولايات المتحدة الأميركية في الاستيلاء أو الحفاظ على سرية بنك المعلومات التي بحوزة قادة التنظيم نظراً لما تحتويه هذه المعلومات من أمور حساسة تتعلق بالهيكلية والأهداف، لذلك حرصت واشنطن قبل التوجه لسياسة الأرض المحروقة على تأمين سلامة هذه المعلومات وأمنت الحماية لها، بالمقدار ذاته وربما أكثر من اهتمامها بالاستيلاء على أطنان الذهب والأموال التي بحوزة داعش.
الولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر حتى يومنا هذا على قمة هرم النظام الدولي من حيث القوة العسكرية، هي لن تغامر بهذه السمعة عبثاً من دون مكاسب توظيفية لها تداعيات جيوسياسية على مستوى المنطقة سواء فيما يتعلق بالتموضع الأميركي في الشمال السوري وعلى طول الحدود مع العراق، أم بالاستمرار في توظيف الإرهاب كأحد الأدوات العابرة للحدود الجغرافية في الحروب الناعمة، فالباغوز هذه الرقعة الجغرافية الضيقة من الخريطة السورية هي مهددة اليوم لعملية تدمير ممنهجة ضمن سياسة الأرض المحروقة التي تمارسها واشنطن تجاه الجغرافية والمواطنين السوريين بعد تحقيق أهدافها، والرقة مازالت شاهدة وتنضح بمعالم التدمير التي من المؤكد ستطول الباغوز خلال الأيام القادمة.