«الترامبية» كما بدت في عامين.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

«الترامبية» كما بدت في عامين.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الجمعة، ١٥ فبراير ٢٠١٩

أثارت سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب إشكالية كبيرة على مختلف الصعد حتى غدت على مدى عامين ظاهرة سياسية لا بد أن تترك بصماتها التي لن تزول سريعا من الجسد الأميركي، ولم تكن مصادفة أن يثار حولها كل ذلك اللغط الذي وصل إلى حدود التشكيك بـ«أميركية» الرجل بل التشكيك بقدراته الذهنية أيضاً ولعله كان في الأمر ما يدعو إليه عند الكثيرين قياسا إلى صداميته التي برزت منذ أن وطأت أقدامه البيت الأبيض حتى إن رهان العديد من المحللين كان يصل إلى حدود ألا يتم عامه الأول، لكنه اليوم تعدى حوله الثاني وما بعد انتخابات مجلسي الكونغرس والشيوخ الأخيرة في تشرين ثاني الماضي فالمؤكد أنه سيتم ولايته الأولى كلها بسلام، والراجح وفق معطيات عديدة أن يفوز بولاية ثانية في الانتخابات التي ستجري أواخر عام 2021.
إن من شأن البحث في ظاهرة «الترامبية» والتمعن فيها أن يوضح أن الرجل يخوض صراعا عنوانه العريض هو العودة إلى الجذور، وفي هذا السياق فإن من الجائز أن يصنف على أنه أهم رئيس أميركي جاء بعد الرئيس رونالد ريغن (1980-1988) وثالث أهم رئيس بعد فرانكين روزفلت (1933-1945) في خلال القرن المنصرم.
ينتمي الرئيس ترامب إلى تيار سياسي كان قد ظهر في عام 1823 تحت اسم «مبدأ مونرو» نسبة إلى بيان كان قد أعلنه الرئيس جيمس مونرو (1817-1825) في رسالة وجهها للكونغرس في 2 كانون الأول 1823، ومفادها أن أميركا يجب أن تحصر اهتمامها بشعوب العالم الجديد، والمقصود به هو الأميركيتان الشمالية والجنوبية، والابتعاد عن مشاكل العالم القديم بما فيها أوروبا التي شكلت الهجرات منها النوى الأساسية للنهوض الأميركي الحديث، وما جرى هو أن ذلك المبدأ كان معبرا بدرجة كبيرة عن المزاج العام في البلاد حتى إنه أضحى محددا للسياسات التي اعتمدها كل الرؤساء الأميركيون من بعده، وهو ما تمظهر في رفض واشنطن للدخول في عصبة الأمم المتحدة، وكذا الأمر عندما حدث انهيار الرأسمالية الشهير 1929 فإن واشنطن سعت نحو حلول انفرادية على الرغم من شمولية الأزمة التي كانت تحتم حلولاً شمولية.
جرى خرقان أساسيان لذلك المبدأ قادت إليهما ضرورات الأمن، أولهما عندما قرر الرئيس وودرو ويلسون (1913-1921) الدخول في الحرب العالمية الأولى في نيسان 1917 أي بعد مرور 30 شهراً على اندلاعها، وثانيهما قام به الرئيس روزفلت الذي اضطره هجوم اليابانيين على ميناء بيرل هاربور في كانون الأول 1941 إلى إعلان الحرب على ألمانيا وحليفتها اليابان أي بعد سنتين ونصف السنة أيضاً من اندلاع الحرب، هذه الفترة المديدة في الخرقين كانت تعبيراً أكيداً عن المزاج العام الأميركي المتساوق مع مبدأ «مونرو» الرافض للدخول في مشاكل العالم القديم، واللافت هو أن الأميركيين كانوا سريعا ما يعاودون التقوقع من جديد بمجرد أن تسكت البنادق وتضع الحرب أوزارها.
كانت بدايات التمزق في نسيج «مونرو» مع بروز تيار يميني جمهوري في مطلع الخمسينيات أطلق عليه اسم «المكارثية» نسبة إلى عضو مجلس الشيوخ جوزيف مكارثي (1908-1957)، والتي تمثلت بشعارين عريضين: الأول هزيمة الشيوعية العالمية، والثاني هو سيادة العالم، ولم تكن مصادفة أن ذينك الشعارين قد تحققا على يد الجمهوري رونالد ريغن في عامي 1989 و1991 على التوالي.
استند ذلك التيار في تطوير نزعته بعد انهيار الاتحاد السوفيتي على نظريتي «نهاية التاريخ» لفرنسيس فوكوياما 1989 و«صراع الحضارات» لصموئيل هنتغتون 1993 إلى أن تبلورت نظرية «العولمة» التي لم تكن بعيدة عن شعار «تصدير الثورة» الذي تبناه المناشفة إثر خلافهم مع البلاشفة إبان انتصار ثورة في روسيا عام 1917، كانت فكرة العولمة باختصار تهدف إلى قولبة العالم وفق النموذج الأميركي، وقد أرادها واضعوها ذراعا فكريا وثقافيا وحياتيا يمكن من خلاله قيادة العالم بما يضمن تخفيف أكلاف السياسة والعسكرة.
وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني من عام 2017 بأصوات الداخل الفقير، في حين نالت منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون أصوات الأثرياء الساحليين في الشرق والغرب، ولسوف تشكل تلك الرمزية جانبا مهماً في إيديولوجيات الأول التي سعت إلى تخفيف الفرق الاقتصادي بين الشمال والجنوب الأميركيين، إذ لطالما شكلت حالات كهذه في العديد من تجارب الأمم مدعاة لتفككها أو انفصال بعض الأقاليم عنها، لنراه يعمد إلى التضييق على التجارة الخارجية بغرض جذب الشركات الأميركية نحو الداخل الأمر الذي من شأنه أن يساعد في ترميم وإنعاش الاقتصاد، ثم قال بـ«الحمائية» الجمركية التي تأتت عنده من أن تيار العولمة الاقتصادي كان قد أدى بالنتيجة إلى إثراء العالم على حساب فقر الأميركيين.
سياسيا وفي السياق نفسه كانت الدولة الأميركية، وتحديداً النموذج الأميركي، مسروقة بفعل زلزال نيويورك أيلول 2001 لمصلحة مؤسستي البنتاغون وCIA اللتين استغلتا الحدث الأخير لتثقيل كفتيهما في مواجهة مؤسسات صناعة القرار المتمركزة تاريخيا في البيت الأبيض ووزارة الخارجية.
استخدم ترامب لإنجاح سياساته على المحورين السابقين مختلف صنوف الايديولوجيا مثل «الشعبوية» التي تعني طرح شعارات يدرك القيمون عليها، كما الشارع أيضاً، أنها غير قابلة للتحقيق، كما استخدم التحريض الديني، من قبيل العداء ضد الإسلام، وكذا العرقي، كالعداء ضد الصين، لكنه أظهر عدائية أقل تجاه روسيا حيث ارتأى أنها ضرورية لمناكفة الصين، إلا أن «مونرويته» ظلت بارزة في معاداته للأمم المتحدة بل لحلف شمال الأطلسي أيضاً، ومعهما لاتفاقات التجارة الخارجية الحرة.
الآن: شكلت «المكارثية» التي قامت على أساس تسويق الفوبيا الشيوعية الرحم الذي خرجت منه «الريغانية» التي استطاعت هزيمة الاتحاد السوفيتي ودحره في عام 1991، فهل تكون «الترامبية» الرحم الذي تخرج منه «؟؟؟؟؟» التي تستطيع تكرار السيناريو السوفيتي على الصين؟ أم أن هذا السياق قد ينعكس رأساً على عقب، هذه المرة، ويستطيع التنين القادم من الشرق تفكيك الولايات الأميركية؟
الوطن