سورية أولاً.. بقلم: سيلفا رزوق

سورية أولاً.. بقلم: سيلفا رزوق

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٤ ديسمبر ٢٠١٨

سريعاً انقشع ضباب القرار الأميركي بالانسحاب من سورية، وهدأت عاصفة التخمينات في أسباب ومآلات هذا القرار، مع بدء خروج التصريحات وتحرك الأطراف المعنية لترتيب أوضاع المنطقة ما بعد أميركا.
ما بدا ثابتاً حتى اللحظة هو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يشاور حلفاءه، لا من الأطراف الدولية ولا من الأدوات المحلية التي ذهبت في رهانها بعيداً حد الوصول إلى حلم إنشاء فيدرالية تحظى برعاية وموافقة أميركية، متناسية تاريخ الولايات المتحدة المليء ببيع حلفائها متى ما اقتضت مصالحها، ومتناسية أيضاً أن تركيا هي ركيزة أطلسية عريقة، من المبكر التخلي عنها لصالح أي طرف مهما علا شأن خدماته.
قرار ترامب شكل أيضاً في أحد جوانبه ما أشبه بانقلاب داخل الإدارة الأميركية الحاكمة، وعكس على نحو غير مسبوق حجم الخلاف الداخلي الأميركي، وانتصار المؤسسات الداعمة لترامب على مؤسسات الدولة العميقة المتمثلة بالبنتاغون و«سي آي إي» ، الأمر الذي عجل باستقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس وعدد من الشخصيات التي ستتهاوى تباعاً، بعد فشل كل محاولاتها في ثني رئيسها عن الذهاب بعيداً وبصورة مناقضة لكل ما أرادته.
الثابت حتى اللحظة هو أن ما قام به ترامب جاء تنفيذاً لقرار اتخذه سابقاً وحالت دون تنفيذه محاولات قام بها البنتاغون نفسه، ودفعت بها أطراف إقليمية ودولية تخشى بقاءها وحيدة دون الغطاء الأميركي، لكن هذا البقاء صار بلا جدوى وهي حقيقة لازالت ذات الأطراف تكابر رافضة تقبلها، ومعها تقبل فكرة أن مشروعها الذي خططت له ودفعت إليه أميركا نفسها قد فشل، والدولة السورية التي كان يراد السعي لتفكيكها صمدت وقلبت الطاولة على رؤوس الجميع، وعليه وبلغة المصالح الأميركية فإن أي نتائج مأمولة للإبقاء على هذه القوات باتت صفراً، والخلاصة هو الخروج من منطقة ساخنة بلا جدوى، والتفرغ لمعركة أكبر وأشد باتجاه الشرق نحو الصين.
ما يبدو بديهياً لمعظم القارئين بالسياسة والعارفين بخفايا التوجه الأميركي، لم يكن كذلك لدى الطرف الذي وصف خطوة واشنطن بـ«الطعنة بالظهر»، هؤلاء أصروا على تسطير مفاجأة أخرى لن تقل خسائرها على ما سبق، وقرار استبدال الحضن الأميركي بحضن فرنسي ضعيف وخائب، بدا خارج حدود المنطق حتى لدى الفرنسيين أنفسهم، والذين لم يجرؤوا حتى على إعلان استعدادهم لتسلم الوصاية عن الأميركي الخارج للتو من المنطقة.
النقطة اللافتة أيضاً والتي قد تشكل أحد مفاتيح «اللغز» الأميركي، هو تصريح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بأن بلاده «تعول على الروس والأتراك وتأمل بأن ينفذ كل منهما التزاماته التي تعهد بها في إطار قرار مجلس الأمن الدولي»، في إشارة إلى ترتيبات متوقعة ستقودها ربما روسيا المرشح الأقوى لقيادة مرحلة «ما بعد أميركا».
الرد الروسي لم يغب طويلاً بإعلان الترحيب بالخطوة الأميركية، وربط هذه الخطوة مباشرة بالحل السياسي، وهي رسالة روسية مفادها، أننا جاهزون وجادون في التحرك قدماً لترتيب ما خربته واشنطن، والسعي لصياغة نظام إقليمي جديد ومستقر لفترة زمنية ستطول.
رد موسكو أحد أعمدة «الضامنة» الثلاثة، ماثله رد الضامن الآخر إيران، والذي بدا معنياً جيداً بأي تحرك أميركي وخروج ربما بدا مريباً له من سورية وأفغانستان على حد سواء، لكن اللاعب الإقليمي وصاحب الأرض أدرى بتفاصيلها، والمنطقة ستكون أكثر أمناً بدون أميركا، لتظل تركيا وحدها في عين الترقب الإقليمي بعد مجاهرتها بربط الخطوة الأميركية بترتيبات لغزو شمال سورية، سرعان ما أعلنت التريث فيه عقب رسائل أميركية وغير أميركية ربما.
تبقى إذاً دمشق التي فضلت الصمت حتى اللحظة، وهو ما شكل بحد ذاته رداً، معلناً ترك المساحة لحدود الميدان، حيث بدأت تحركات الجيش السوري وتعزيزاته باتجاه استلام الحدود شرقاً، والإطباق على ما تبقى من جيوب «داعش» على ضفاف الفرات، كما أن رسالة «الصمت» ربما ستشكل فرصة لاستعادة طرف سوري لا يزال فاقداً لبوصلته السياسية، وباحثاً في كل الخيارات ماعدا خيار «سورية أولاً» وفوق الجميع.
خروج أميركا وأياً كانت التحليلات هو فعل خير على المنطقة، وإعلان واضح عن فشل مشروع نفذته بأموال وأدوات غيرها، وهو بالتأكيد بداية مرحلة جديدة ومغايرة إن على مستوى المنطقة أو على مستوى العالم، الذي يتغير على نحو أسرع مما يتوقعه الجميع.