فرنسا تدخل في المجهول لماذا؟.. بقلم: د.وفيق إبراهيم

فرنسا تدخل في المجهول لماذا؟.. بقلم: د.وفيق إبراهيم

تحليل وآراء

الخميس، ١٣ ديسمبر ٢٠١٨

تتحضّر الأحزاب الفرنسية في الأشهر الاولى من العام المقبل لقيادة احتجاجات مطلبية تعكس «أزمة نظام» بنى استقراره السياسي على طبقة وسطى بدأت تترنّح.
وهذا يعني أن الحلول الأخيرة التي قدمها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لم تلامس البعد الحقيقي للأزمة الاجتماعية، وبدت كمية مسكنات من الاسبرين لأزمة بنيوية تطال الفئات الاجتماعية الاساسية.
ما هي هذه الأزمة؟
الاستقرار السياسي الفرنسي هو وليد التوسّع التاريخي الفرنسي والنهضة الداخلية.. فالتوسّع العسكري أمّن لفرنسا موارد وأسواقاً في العالم الثالث الأفريقي والآسيوي ووفَّر لفرنسا فائضاً اقتصادياً ضخماً لبناء انتاجها بسواعد العمالة الشمال أفريقية والسوداء والرساميل المتأتية بمعظمها من موارد دول الجيوبوليتك الفرنسي، في معظم قارات العالم.
ما يعني أن سياسة التوسع التي امتزجت بالتقدم الفرنسي الداخلي في إطار من التحالف الغربي الكبير الذي رضخ أخيراً لقيادة اميركية.. أصاب المجتمعات الغربية بتطور اجتماعي كبير، فانقسمت الطبقات الاجتماعية إلى قليل من الأغنياء لا يتعدى الـ 25 في المئة مقابل 25 في المئة أو أكثر بقليل من الفقراء. أما الطبقة الكبرى فهي الوسطى التي يعتبرها علماء الاجتماع السبب الأساسي للاستقرار السياسي في الغرب واليابان.. والسبب أن المنتمي إليها لا يُصاب بيأس طبقي، محتفظاً دائماً بإمكانات القادر على الصعود إلى درجات أعلى، وتحتاج إلى إمكانات معقولة، كذلك حال الفقراء في هذا المدى الشاسع، لأن وجود طبقة وسطى يُشعره بالقدرة الممكنة للقفز اليها.
 
بهذا النمط من التطور، شكل العالم الغربي، ومنها فرنسا، نموذجاً عالمياً للاقتداء، محولاً أسواق العالم الى مواقع لاستهلاك سلعة وثروات الطاقة والمعدن في بلدان العالم إلى وسائل لبناء صناعته، فجمع بين السيطرة السياسية والهيمنة الاقتصادية.
 
لكن هذه الرتابة لم تتواصل، لأن الأميركيين أرادوا الاستئثار بكل شيء بواسطة الترويج «للعولمة» أي القضاء على الحمائية الوطنية للأسواق بإلغاء ما يعترض السلع من معوقات عند الحدود السياسية. وما شجعها على هذا الأمر، تراجع الاتحاد السوفياتي في الثمانينات وانهياره في أواخرها، فتشجّع الأميركيون على فكرة الاستئثار بها بوضع يدهم المنفردة على العالم ومعهم الكورس الأوروبي الموالي لهم الذي يمكن كعادته ان يستفيد بالفتات.
 
ما نتج من عولمة واشنطن جاء صاعقاً من تقدم صيني صاعق أدرك مستوى تجاوز الولايات المتحدة نفسها، وتسلق ألماني باهر اخترق الاسواق الاميركية والعالمية، وكذلك اليابان التي أدركت المستوى الاقتصادي الثالث بعد الصين.
 
اما انجلترا فتراجعت وحملت أسباب فشلها الى انتمائها للاتحاد الاوروبي فأعلنت الانفصال عنه في حركة ربما يعتبرها المحللون في مراحل لاحقة بأنها كانت لازمة لاحتواء الاضطرابات الاجتماعية.. لجهة روسيا فقررت القيادة الجديدة لبوتين أن عودتها الى معالجة الأزمات الحيوية في العالم، هي السبيل الوحيد لإعادة استثمار تقدمها العسكري في اعادة بناء اقتصادها الذي يحتاج فقط الى تخطيط يجمع بين قوة العسكرية الجديرة بتأمين الأسواق ومواردها الأولية الهائلة مع ربطها بشبكة صناعية في الداخل، ويصادف ان ما تحتاج اليه موسكو يتوافر لديها، من أسواق تقود اليها القوة الروسية وعقل علمي يحتاج الى دمج المكوّنات الروسية والموارد الاولية الكامنة في التراب الروسي او الصديق له في الشرق الاوسط.
 
فرنسا بمفردها، عبرت عن هذه الضائقة التاريخية بإعلان طلاقها مع الأحزاب التقليدية فاختارت ماكرون لرئاستها وهو الذي لا ينتمي إلا إلى تجمع صغير وحديث أطلقه مؤخراً وانتصر بواسطته في الانتخابات، على قاعدة تأمين نهضة اقتصادية فرنسية ترسخ الاستقرار السياسي وبالتالي الاجتماعي الاقتصادي.
 
إلا أن ماكرون فاجأ مواطنيه بتطبيق خطة بدت وكأنها تعيد اجترار التاريخ الاستعماري الفرنسي مطعماً بشيء من الديغولية، مع إهمال كبير للوضع الداخلي، كان يعتقد ان تراجع الامبراطورية الاميركية لما كابدته من أعباء وحروب وتدخلات استعمارية في افغانستان والعراق والشرق الأوسط العربي من اليمن الى سورية يؤدي هذا التراجع الاميركي الى اعادة بعث اوروبا القرن التاسع عشر انما بقناع ديغولي، أي إعادة بناء عمق استعماري يجري تحميله بملامح ديموقراطية معاصرة تضرب بعشوائية نادرة في أداء سياسات عالمية متناقضة، برغم أنه يحمل مبادئ الثورة الفرنسية على كتفيه فيتآمر على سورية مرسلاً كتائب فرنسية الى مناطقها الشرقية والشمالية حيث الغاز والنفط والأكراد، ومتحالفاً مع السعودية ضد كل مظاهر الحداثة فيها، ويرسل شعراً إلى الفلسطينيين وسلاحاً إلى «إسرائيل» مستنكراً الحرب على اليمن، ومؤيداً في الوقت نفسه القوى السعودية والإماراتية التي تهاجمها وتبيد المدنيين فيها.
 
لقد اعتقد الرئيس الفرنسي أن تحالفه مع المانيا يؤدي الى اعادة بعث «أوروبا الاستعمارية» وسرقتها من فم الفيل الأميركي ـ او مشاركته على الأقل بإعادة تقسيم النفوذ ومراكز القوى في العالم في مرحلة من مراحل تفاقم الصراع الثلاثي الصيني ـ الروسي ـ الاميركي.
 
اليوم يجد ماكرون بلاده وحيدة، ومتراجعة سياسياً واقتصادياً، الأميركيون استوعبوا ما تريده ويحاول إجهاض خطتها وليس لدى الصين وروسيا ما يعطونه للفرنسيين باستثناء الابتهالات التي لا تخمد الاضطرابات الاجتماعية.
 
للتوضيح فإن تراجع الطبقة الوسطى الفرنسية لم تتسبّب بسياسات ماكرون بقدر ما تعكس مرحلة تاريخية بدأت مع انهيار الرئيس السابق شيراك أمام الضغوط الأميركية اواخر القرن الماضي.
 
بمواكبة ارتفاع أعداد الأغنياء الفرنسيين وممتلكاتهم في الثروة الوطنية بسبب تراجع الضرائب عليهم، واعتماد سياسات اجتماعية ممالئة لهم في مرحلتي ساركوزي وهولاند.
 
فهل يعود ماكرون إلى إصلاحات بنيوية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية تعيد البريق الى الطبقة الوسطى الحامية الفعلية للنظام.
 
أم أن هذه الطبقة الوسطى تجنح للتحالف مع الكادحين ذوي السترات الصفراء.. فيتم بذلك تحقيق اندماج بين النقابات المسيطرة على الفقراء وأحزاب اليمين المتطرف واليسار والراديكالي والديغوليين المهيمنين على الطبقات الوسطى. وهذا يؤدي فوراً إلى ولادة أزمة نظام فعلية لا حل لها إلا في انتخابات جديدة تشريعية وربما رئاسية تطيح بماكرون وتعيده الى حضن زوجته التي تشبه جدته.
 
فرنسا إلى أين؟
 
تركض بسرعة وسط خيارين متصارعين، اهتمام مركز في الداخل لوقف التدهور الطبقي عبر سحب بعض امتيازات الأغنياء وتوزيعها على الطبقتين الوسطى والفقيرة، ام العودة الكاملة الى العباءة الاميركية لعلها تحصل على عون من بلدان الخليج كافٍ لجرعات تسكين للداخل وهذا يتطلب انسحاق السياسة الفرنسية بشكل كامل بالنفوذ الاميركي.
 
فماذا تختار فرنسا؟ قد يحاول ماكرون التوفيق بين الخيارين فتبقى فرنسا من دول الصف الثاني في العالم، وربما أكثر انخفاضاً.