أزمة “نظام ماكرون”.. بقلم: هيفاء علي

أزمة “نظام ماكرون”.. بقلم: هيفاء علي

تحليل وآراء

الأربعاء، ١٠ أكتوبر ٢٠١٨

أثارت الاستقالات الثلاث الأخيرة من الحكومة الفرنسية ضجة كبيرة في الشارع الفرنسي ووسائل الإعلام الفرنسية على حدّ سواء. ولعلّ أكثرها صدمةً استقالة وزير الداخلية جيرارد كولومب، ذات الأهمية السياسية وكذلك البيان الذي أدلى به من الفناء الأمامي للوزارة للإعلان عن استقالته هو الآخر على القدر نفسه من الأهمية.
تشكّل هذه الاستقالات جزءاً من تسلسل كارثي لكنه منطقي، بالنسبة لإيمانويل ماكرون الذي أصبحت قوته عارية الآن، لم يعد أسلوبه الخليط من السلطوية والمحسوبية يعمل، ولم يرقَ أساساً إلى مستوى الآمال التي عقدها الفرنسيون عليه  عند انتخابه. أما الآن، فلا يدين إيمانويل ماكرون ببقائه السياسي إلا لانقسامات وضعف المعارضة.
وجاءت استقالة وزير الداخلية جيرارد كولومب عقب استقالة وزير البيئة نيكولاس هولو، ووزيرة الرياضة لورا فليسيل، لتعلن ولادة أزمة سياسية خطيرة حتى لو لم يعترف ماكرون بذلك، إنها أزمة سياسية حقيقية لأن هاتين الوزارتين تشغلان في سجلهما حيزاً رئيسياً في جهاز “الماكرونية”، وبسبب التصريحات التي أدلى بها الوزيران المستقيلان. إذ يمثل نيكولاس هولو حشد “اليسار” الذي يعتنق الرموز البيئية التي تقابل الاتجاه الرجعي المتنامي لسياسة الحكومة الاجتماعية والاقتصادية. إذا كانت استقالته التي أعلن عنها في حالة انهيار قد أخذت ماكرون على حين غرة، فإن البيان الذي أدلى به عند مغادرته الوزارة أكثر أهميةً. في هذا الإعلان شنّ “هولو” هجوماً عنيفاً على “اللوبيات” التي تعمل على إعاقة ومنع أي عمل بيئي تقوم به الحكومة. بالكاد يمكن القول إن هذه الحكومة، بعيداً عن العمل من أجل المصلحة العامة، لا تعدو كونها مجرد تكتل من أجل المصالح الخاصة.
مما لا شك فيه أن هذه الاستقالة شكّلت ضربة قوية لإيمانويل ماكرون، واستبدال نيكولاس هولو بشخصية انتهازية، هو فرانسوا دي روغي، لم يعالجها. كما أن استقالة وزير الداخلية هي الأخرى ضربة خطيرة، بل وأكثر من ذلك فهو الذي قدّم أول دعم سياسي ثقيل لصعود ماكرون سياسياً، وكان الضامن له في مسائل السلطة، لكن وزير الداخلية لم يتوقف عن انتقاده في الأسابيع الأخيرة وندّد بالعزلة المتزايدة للرئيس، وأعلن استقالته بعد الانتخابات الأوروبية مباشرةً لتدلّ على حالة الفوضى العميقة المحيطة برئاسة ماكرون. وأشار في بيان الاستقالة إلى وضع البلاد المتدهور والأحياء التي تعيش خارج الجمهورية. هذا الوضع معروف منذ سنوات إلا أن الحكومة تجاهلته وكذلك النخبة السياسية وعلى رأسها ماكرون، وجاء وزير الداخلية ليكشف النقاب عنها.

صورة ماكرون المتدهورة!
تأثير هذه الاستقالات على السلطة “الماكرونية” مدمّر جراء التدهور العميق لصورة إيمانويل ماكرون في الرأي العام خلال الأشهر الأخيرة، بعد كشف النقاب عن سلوكياته وشخصيته، وتورطه في قضية حارسه الشخصي بينالا.
عدا المشكلة السياسية الجوهرية، كيف ترك الفرنسيون إدارة أمن البلاد لرجل عديم الخبرة وعديم المراجع؟!. ما عدا التعليمات القضائية، لم يفلح ماكرون في إيجاد النبرة الصحيحة للحديث عن هذه القضية، بل إن خطابه الكارثي أمام نواب حزبه “إلى الإمام” بنى صورة لزعيم القبيلة أو زعيم عصابة المافيا، جراء انعدام الخبرة أو جراء السخط،  وربما كلاهما معاً.
هكذا، خلال زيارته إلى سانت مارتن، الجزيرة التي  دمّرها إعصار قبل عام، تمّ نشر مقطع فيديو يظهر ماكرون يتبادل الحديث مع بعض الناجين من الإعصار الذين عبّروا عن سخطهم من الحكومة العتيدة، وكان من الواضح جداً أن نشر هذه اللقطة جزء من حملة “التواصل” التي أطلقها ماكرون. ولكن بالنسبة لهذا التواصل، فإنه لا يتردّد في التلاعب بأجهزة الجريمة السابقة وممارستها، بغض النظر عما أصبحوا عليه بعد مروره. فمن الواضح أنه تمّ نشر الصورة الشهيرة لغايات سياسية واضحة. في الواقع، هناك ازدراء طبقي هائل، ولكن أيضاً خلفية عنصرية هائلة، وهي الخلفية نفسها التي تمّ التعبير عنها في النكتة السخيفة التي قالها ماكرون إزاء جزر القمر!.
تصف هذه الأحداث ماكرون الذي حرّر نفسه من قواعد الكرامة التي يُفترض أن يحترمها رئيس الجمهورية، والتي تجعله يغيب عن الوعي أو يعبّر عن نفسه كثيراً. العنصرية الأساسية هي العنصرية الطبقية (وكلاهما مرتبطان في كثير من الأحيان) والتي لا تزال مفرداتها مهينة للعامة من الفرنسيين الذين هم “لا شيء” بنظر الحكومة. رئيس الجمهورية هو أول القضاة ويُفترض أن يأخذ في اعتباره مصلحة جميع الفرنسيين، لكنه فقد ما بقي له من الشرعية. وعليه يجب أن يعلم، وعلى حسابه، أن الشرعية من دون شرعية هي مجرد قشة.

أزمة سياسية.. وأزمة نظام؟
إذاً، تعيش فرنسا هذه الأيام أزمة سياسية حادة على الرغم من نفي ماكرون، لكن عدم تناسق سياسة الحكومة التي تتلقى التعليمات يومياً من قصر الاليزيه، يقود اليوم إلى التساؤل عما إذا كنّا على حافة أزمة النظام. خسارة حلفائه من اللحظة الأولى علامة لا تخدع، الأمل الوحيد الذي يستطيع ماكرون التعويل عليه هو انقسام المعارضة الدائم الذي يشكل له القوة القصوى.
ولكن كما يعرف إيمانويل ماكرون، فإن الاحتقار يولّد الكراهية دائماً، وغالباً ما يؤدي إلى العنف. يجب عليه أن يقنع نفسه بأن كرامة السلوك والكلام هي وحدها القادرة على كبح لجام هذه الكراهية المركزة على شخصه، مع العواقب المأساوية التي يمكن أن تؤول إليها!.