إدلب.. الشرق السوري.. والاتجاهات الإستراتيجية.. بقلم: أنس وهيب الكردي

إدلب.. الشرق السوري.. والاتجاهات الإستراتيجية.. بقلم: أنس وهيب الكردي

تحليل وآراء

الأربعاء، ٥ سبتمبر ٢٠١٨

رفعت الولايات المتحدة مجدداً عقيرتها حيال الأزمة السورية، بالترافق مع اقتراب مصير إدلب من الحسم.
بدأ كل شيء بعد اجتماع مستشاري الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف والأميركي جون بولتون في مدينة جنيف السويسرية. في ذلك الاجتماع ظهر أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تراجعت عن الخروج من شرق سورية وأن اهتماماتها السورية لا تنفصل عن هدفين متكاملين، أولهما تمديد وجودها العسكري في العراق درة المنطقة إلى أجل غير مسمى، ثانيهما، المساهمة في الحد من نفوذ إيران ودحره عبر المنطقة بما يجبر قادتها على الذهاب إلى طاولة التفاوض بشروط ترامب.
من النافل قوله: إن إدارة ترامب لن تقبل أن يجري استبعادها عن تقرير مصير قضية مهمة ومعقدة مثل مصير إدلب، وهي تعي أن حسمها من ثلاثي أستانا روسيا وإيران وتركيا، سيزيد قوة الائتلاف الذي ينظمه الروس لحلحلة الأزمة السورية. ذلك غير مقبول تماشياً مع تفكير الولايات المتحدة في نفسها كعنصر لا غنى عن دوره في أي مسألة بالشرق الأوسط أو العالم، فضلاً عن أن واشنطن تعتقد أن الشرق السوري، حيث لها مصالح مباشرة تتمثل في قوات عسكرية، ومواقع، ومطارات وعتاد، سيصبح الهدف التالي لروسيا التي لم تخف عزمها زيادة الضغوط على الأميركيين في العام المقبل من أجل تحديد مصير هذه المنطقة الغنية والإستراتيجية، التي تتمتع بإطلالة فريدة على العراق ومنه على إيران في الشرق، على تركيا في الشمال، وعلى الأردن ومنه الخليج في الجنوب، وعلى منطقة غرب سورية ولبنان ومنهما على البحر الأبيض المتوسط.
ولمصير إدلب بحد ذاته أهمية حاسمة، ليس فقط لأن المعركة حولها تمثل آخر أكبر المعارك في الأزمة السورية، حيث يتجمع آلاف المقاتلين الأجانب، بالأخص الشيشانيون، المصريون، والإيغور، المنتمون إلى تنظيم القاعدة وتفرعاته، بل أيضاً، نتيجة تأثير مجريات الحسم على العديد من الاتجاهات الإستراتيجية في المنطقة؛ الاتجاه التركي في الشرق الأوسط ومستقبل التفاهمات التركية الروسية في مرحلة ما بعد قمة سانت بطرسبورغ بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، الاتجاه الروسي حيال المصالح الأميركية في الهلال الخصيب، الاتجاه الإيراني حيال الدور الروسي في سورية والمنطقة، أخيراً، الاتجاه الإسرائيلي تجاه مسألة الوجود الإيراني في سورية ودور حزب اللـه في لبنان. والولايات المتحدة معنية بالبقاء قريبة من تطورات الأحداث في إدلب كي لا تجد نفسها وقد أفلتت منها فرص التأثير في تلك الاتجاهات ذات الأهمية الحاسمة لمستقبل الهلال الخصيب.
في خطوة لتقوية أوراقها في المنطقة، استغلت الولايات المتحدة انشغال الجيش السوري والروس والإيرانيين والأتراك في ترتيب الوضع في إدلب، وعززت وجودها العسكري في شرق سورية بأكثر من 1500 شاحنة، حملت أسلحة جديدة ورادارات وربما منظومة دفاع جوي إلى مناطق الجزيرة وعين العرب بريف حلب الشرقي. عملت واشنطن على إطلاق دخان كثيف للتغطية على عمليتها بشرق سورية، من خلال تصعيد تهديداتها للجيش السوري وعرقلة الحملة العسكرية في إدلب. يحمل إدخال هذه الشحنات الأميركية إلى شرق سورية طابعاً استفزازياً للأتراك والإيرانيين والروس. ويأتي ذلك في توقيت حساس للغاية، سواء بالنسبة للتطورات حول تركيا وإيران، أو العراق. ففي بلاد الرافدين تلوح بوادر مواجهة كبرى حول تشكيل الحكومة الجديدة، تنفخ في أوارها الولايات المتحدة، ويشكل تعزيز الوجود الأميركي في شرق سورية رصيداً مهماً لدى واشنطن في المعركة من أجل بغداد، كذلك الحال تريده منصة لمنع تمدد النفوذ الإيراني ومواجهة طهران في المنطقة، والتي ستتصاعد على وقع الوضع السياسي في العراق، وقرب فرض الإدارة الأميركية الحزمة الثانية من العقوبات على إيران في شهر تشرين الثاني المقبل.
واشنطن تريد من وراء خطوتها الأخيرة في شرق سورية أيضاً، ترتيب مزيد من الضغوط على تركيا كي تقدم على فك ارتباطها عن السياسة الروسية في المنطقة، وتتراجع عن شراء منظومة الدفاع الصاروخي «إس 400» من روسيا، والتي سيكون لإتمامها تأثير مزلزل على بنيان حلف شمال الأطلسي «الناتو». كما تبعث واشنطن عبر خطوتها تلك برسالة للروس، مفادها أن ائتلاف أستانا غير قادر على تسوية الوضع في سورية وإلا فرضت واشنطن حقائق في شرق سورية تجعل أي حل في غربها غير مستقر وهشاً.
تعلق تركيا آمالاً كبيرة على تفهم روسي لرغبتها في استمرار وجود المسلحين في إدلب أو على الأقل ريفها الشمالي، كضمان أرضي لحصتها من إعادة الإعمار والتسوية السياسية النهائية للأزمة السورية، كما تريد أنقرة عقد صفقات تجارية مربحة مع موسكو وطهران علها تعين الاقتصاد التركي المترنح على الوقوف على قدميه من جديد، على حين يعول الكرملين على استمرار الدور التركي في محادثات أستانا التي نجحت إلى حد بعيد في إقصاء عملية جنيف إلى خلفية المشهد الدبلوماسي، فضلاً عن رهانات القادة الروس على الاحتمالات الإستراتيجية الكبرى لتراخي العلاقات الأميركية التركية التي من شأنها إضعاف الجناح الجنوبي لـ«الناتو»، أما الإيرانيون، فهم يحتاجون إلى شركائهم الروس في المنطقة، وأيضاً فيما يتعلق بالمساومات الدولية حول الاتفاق النووي، ولمواجهة العقوبات الأميركية، وكذلك يحتاجون إلى الأتراك للالتفاف على تلك العقوبات.
من كل هذه الصورة الكبرى حول إدلب، يتوقع أن تشهد قمة طهران بين رؤساء إيران، روسيا وتركيا تفاهماً حول إدارة مشتركة للعملية الحربية في الشمال الغربي من سورية، وربما تتحضر أنقرة لتطوير موقفها حيال الحكومة السورية، كي توسع هامش مناورتها حيال السياسة الأميركية في شرق الفرات، والتي تهدد بنشوء مركز جيوسياسي جديد في المنطقة، يجرد تركيا من أهميتها الإستراتيجية للتحالف الغربي ويضاعف من الضغوط الداخلية على وحدتها الوطنية. وفي كل الأحوال يبدو أن واشنطن تتعامل مع معركة إدلب بوصفها فرصة لفرض أمر واقع يصعب تغييره في شرق سورية، تواجه منه ائتلاف أستانا الذي يقترب من حسم مصير المناطق الواقعة غرب سورية كاملاً.