محاولة لتحديد مفهوم العلمانية.. بقلم: محمد سيد رصاص

محاولة لتحديد مفهوم العلمانية.. بقلم: محمد سيد رصاص

تحليل وآراء

السبت، ٢٥ أغسطس ٢٠١٨

تحوّلت المسيحية في عهد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين (306 - 337 ميلادية) إلى دين للدولة، إذ تولت الأخيرة بناء الكنائس ودعم فئة الإكليروس وملائمة التشريع مع الدين الجديد، إضافة إلى منع العبادات الوثنية وفرض قيود مشددة على اليهود. في العصور الوسطى، ضعف ملوك أوروبا وبدأت سلطة بابا روما بالنمو، وقد تبع ملوك أوروبا دعوة البابا أربانيوس الثاني إلى الحرب الصليبية عام 1095في حملاتها الثماني. مع عصر النهضة الأوروبية، منذ القرن الخامس عشر، بدأت سلطة الملوك تقوى على حساب الباباوات، إذ تجسّد هذا في فرنسا عام 1516 عندما حُسم الصراع لمصلحة الملك مقابل الكنيسة على حساب روما، ثم تثنى هذا في إنكلترا عام 1534 عندما قام الملك هنري الثامن بفصل كنيسة إنكلترا عن روما وتأميم الأديرة وأملاكها في وقت كانت فيه ثروة الكنيسة تعادل ثلث ثروة إنكلترا، وكانت ثروة الكاردينال وولزي تعادل ثروة الملك وتفوق ثروة النبلاء. بين هذين التاريخين، وفي عام 1517، كان الألماني مارتن لوثر قد بدأ حركته الاحتجاجية (البروتستانتية) ضد سلطة بابا روما وضد التراتبية الإكليروسية، داعياً إلى انتفاء الوساطة بين المؤمن والكتاب المقدس، وبعده بسبع سنوات بدأت حرب الفلاحين في ألمانيا التي شملت أيضاً سكان المدن وصغار النبلاء ضد الكنيسة المرتبطة بالبابا والإمبراطورية النمسوية والأمراء الدينيين وأغنياء النبلاء وأخذت شكل حرب شمال ووسط بروتستانتي ضد الجنوب الكاثوليكي.
كان المسار الإنكليزي مولّداً لعلمانية مختلفة عن تلك الفرنسية. كان الصراع مع فئة رجال الدين الذين يتبعون روما وسيطروا على الاقتصاد والتعليم ونافسوا في سلطتهم الملك والنبلاء وسائر فئات المجتمع. أخذ الصراع مع روما شكلاً ارتبط فيه استقلال كنيسة إنكلترا مع تعزز القومية المحلية ومع اتجاه سلطة الملك نحو الشكل المطلق بعدما تعززت قوته الاقتصادية من خلال السيطرة على أملاك الكنيسة التابعة لروما. هذه الحركة للتخلص من سلطة الكنيسة ورجال الإكليروس فيها اعتبرت بمثابة حركة علمنة ما دام سواد أو عامة الناس laity قد تولوا زمام الشؤون العامة على حساب سلطة فئة الإكليروس (clergy). في اللغة الإنكليزية، هناك تعاكس بين الشأن المدني (laic) وبين (clerical)، أي الأمر المتعلق بالكنيسة وفئة الإكليروس، أي بين الفرد المدني ــــ العلماني (layman) ورجل الدين (clergyman). من هنا، تسمى العلمانية في إنكلترا بمصطلح (laicism)، أي اتجاه مدني نحو تولي المدنيين، يعني غير رجال الدين، للفضاء العام. بهذا المعنى، العلمانية الإنكليزية هي الفصل بين الدولة والكنيسة وحيادية الدولة تجاه الدين. هذه الحيادية هي حيادية مؤسسات الدولة تجاه الدين ومنع للكنيسة والإكليروس من أن يكون لهما تأثير على الدولة ومؤسساتها. هذا لا يتضمن منعاً لمتدينين من المدنيين في الانخراط في الشأن السياسي العام. من هنا، لم تمنع العلمانية الإنكليزية اتجاهات سياسية لأفراد مدنيين مستمدة كاتجاه سياسي من عقيدتهم الدينية، كما في حركة البيوريتان في ثورة 1642-1649، المدعومة من البرلمان ومن تجار لندن، ضد سلطة الملك والنبلاء. البيوريتان مع أوليفر كرومويل 1653-1658 هم الذين قاموا بالثورة البورجوازية الإنكليزية بعد قطع رأس الملك ثم كانوا في «حزب الأحرار» (الويغ) ضد «حزب المحافظين» (التوري) عماد ثورة 1688-1689 التي جعلت إنكلترا ملكية دستورية. نجد في ألمانيا والولايات المتحدة شيئاً شبيهاً مع العلمانية الإنكليزية، حيث العلمانية تعني الفصل بين مؤسسات الدولة ومؤسسات الدين. ولكن هناك في الوقت نفسه توجد اتجاهات سياسية أميركية متأثرة بالمنظور الديني، وفي ألمانيا يوجد «حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي» و«الحزب المسيحي الاجتماعي» في ولاية بافاريا.
كان المسار الفرنسي مختلفاً بسبب حدث 1615 عندما أدى وضع الكنيسة تحت سلطة الملك إلى نشوء اتحاد ثنائي بين السلطة الملكية المطلقة وبين الكنيسة انضاف إلى النبلاء. من هنا، كانت ثورة 1789 الفرنسية موجهة ضد اتحاد هذه القوى الثلاث. عملياً، لا يساعد مصطلح (laicism) في توضيح العلمانية الفرنسية التي تكرس انتصارها بعد صراعات طويلة عام 1905. الأفضل والأقرب لملامسة العلمانية الفرنسية أن توضع تحت مصطلح (secularism) وهو مصطلح من إنتاج خمسينيات القرن التاسع عشر. يعني هذا المصطلح الفصل بين الدين والسياسة وكل فضاءات الشأن العام وحصر الدين في الشأن الفردي الطقوسي والأخلاقي الخاص. من هنا، في فرنسا يمنع إنشاء أحزاب تستمد من الدين أيديولوجيتها السياسية، مثل الأحزاب الديموقراطية المسيحية التي انتشرت في إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وألمانيا وفي بلدان أميركا اللاتينية، كما منعت الكنيسة من أن يكون لها مؤسسات في التعليم، وتم منع المظاهر والإشارات والأزياء ذات الدلالات الدينية في المؤسسات العامة. لا يزال اليمين الأميركي حتى الآن يعتبر العلمانية الفرنسية (secularism) مرادفةً للإلحاد أو العداء للدين، وفي نظرة يمينية معتدلة يعتبرها أقرب إلى الشكية الريبية أو اللاأدرية بالمعنى الفلسفي كمنطقة وسطى بين الإيمان والإلحاد.
في الهند، هناك نموذج علماني على الطراز الإنكليزي، إذ يوجد الآن حزب هندوسي أصولي حاكم هو «حزب بهاراتيا جاناتا» منذ انتخابات برلمان 2014 يقبل بالدستور العلماني الهندي ويشتغل تحت مظلته ويسعى إلى تشريعات في البرلمان تتطابق مع التعاليم الدينية الهندوسية، إذ يستمد أيديولوجيته السياسية منها مع مزجها بنزعة قومية هندية. كما يوجد في ولاية البنجاب حزب سيخي هو «حزب أكالي دال»، بينما المسلمون الهنود يتجهون، وهم أقلية بين 10ــ 15%من السكان، نحو حزب المؤتمر أو الحزب الشيوعي بجناحيه من دون أي حزب إسلامي أصولي. في إسرائيل، لا يوجد دستور، لكن الصهيونية عند العماليين والليكوديين تعتبر حركة قومية يهودية علمانية، وهناك فصل بين الدين والدولة وتوجد عندهما مقاومة ضد الأحزاب الأصولية اليهودية، مثل «حزب أغودات يسرائيل»، عند محاولة فرضها تشريعات دينية أرثوذكسية في الفضاء العام أو على مؤسسات الدولة عبر الكنيست. هناك حزب واحد حاول الجمع بين الصهيونية والأرثوذكسية اليهودية الدينية هو «الحزب الديني القومي ــــ المفدال».
في العالم الإسلامي، كانت هناك تجارب علمانية عند مصطفى كمال أتاتورك وعند شاه إيران، هي أقرب إلى نموذج العلمانية الفرنسية. أسقط الإسلاميون شاه إيران وأقاموا الجمهورية الإسلامية الإيرانية. أما في تركيا، فإن حزب رجب طيب إردوغان، وهو الحزب الحاكم منذ عام 2002، لايستطيع التصريح عن أيديولوجيته الإسلامية، إذ يمنع الدستور الأتاتوركي ذلك، وفي برنامجه يتجنب ذلك مقدماً نفسه بوصفه حزباً يمينياً محافظاً. في العالم العربي، لم يكن هناك تجارب علمانية صريحة عند الليبراليين ولا عند العروبيين وحتى الأحزاب الشيوعية العربية، بسبب الصدى السلبي عربياً لتجربة أتاتورك، وقد تجنبت في برامجها تقديم مطالب علمانية. مع نمو الأحزاب الإسلامية، طُرحت غالباً العلمانية بنموذجها الفرنسي من قبل أطراف أو أفراد عرب من أجل منع وحظر الأحزاب الإسلامية وليس من أجل تقديم تصور فكري ــــ سياسي، مع تجنب طرح النموذج العلماني الإنكليزي. طرح العلمانية كان وقائياً أو دفاعياً، وهو غالباً كما في مصر والجزائر، وفي تونس زين العابدين كان طرحاً علمانياً متحالفاً مع الجنرالات ضد الإسلاميين. في تجربة انقلاب الجنرال خالد نزار عام 1992، كان منع الحزب الإسلامي الفائز بالانتخابات طريقاً سالكاً إلى حرب دموية جزائرية دامت عشر سنوات خلفت مئات آلاف القتلى وحطمت المسيرة الديموقراطية البادئة عام 1989. مسار ما بعد 11 كانون الثاني 1992 الجزائري ليس بعيداً عن مسار ما بعد 3 تموز 2013 المصري.