دمشق.. جنيف.. أستانا وبالعكس.. بقلم: عماد خالد الحطبة

دمشق.. جنيف.. أستانا وبالعكس.. بقلم: عماد خالد الحطبة

تحليل وآراء

الاثنين، ١٣ أغسطس ٢٠١٨

في 30 حزيران 2012 انطلقت في مدينة جنيف السويسرية الجولة الأولى من محادثات جنيف، وهي محادثات ماراثونية ستعقد ثماني جولات، لكن الجولة الأولى ستبقى جولة مميزة، لأنها تمخضت عمّا عرف بـ «وثيقة جنيف»، التي ظلت على مدى سنوات الحرب على سورية، «قميص عثمان» الذي «يتاجر» به حلف العدوان، ويرفعه بمناسبة ومن دون مناسبة عند الحديث عن سورية مترافقاً بشعار «شروط المرحلة الانتقالية».
لم تُدعَ سورية إلى تلك الجولة، لأن حلف العدوان كان يعيش وهمَ «قرب انهيار» الدولة السورية، وكان كل «زعيم» ممن حضروا يحلم بمدينة سورية يصلي في مسجدها، لكن الجولة الثانية التي عقدت في شباط 2014، كانت بداية إدراك الحلف المعادي أن المسافة بين الحلم والواقع كبيرة، وأن الجيش العربي السوري الذي استعاد زمام المبادرة، وحقق نصراً استراتيجياً مهماً في حزيران 2013 بتحرير مدينة القصير، لا يمكن تجاوزه في أي ترتيبات مستقبلية لوضع سورية.
دعيت سورية إلى الجولة الثانية، لكن في ظل التصور المتعالي نفسه لحلف العدوان الذي كان يتوهم بأنه في موقع «إعطاء الإملاءات، والحصول على التنازلات»، اصطدم العقل الرأسمالي «المتفوق» منذ عقود بدبلوماسية واضحة في صلابتها؛ إيقاف العنف ووقف دعم الإرهاب شرطان لا رجعة عنهما لإطلاق المفاوضات، لم تكن تلك روسيا بقوتها العسكرية، ولا الصين بقوتها الاقتصادية، مع كامل التقدير لهما ولكن سورية بإرادتها الوطنية الحرة.
ما إن حل عام 2015، حتى تغيرت أولويات حلف العدوان، وبدأ يسعى للحفاظ على الواقع كما هو على الأرض، بغرض التقاط الأنفاس، والحد من اندفاعة الجيش العربي السوري، كما أن عقد «المعارضة» المفترضة بدأ بالانفراط، فظهرت منصات موسكو والقاهرة وأستانا إضافة إلى الرياض والدوحة، وأصبح بإمكان المراقب أن يرى المعركة التي تدور بين أركان «المعارضة» لا تقل في ضراوتها عن المعركة التي تدور على الأرض بين الجيش العربي السوري والتنظيمات الإرهابية، لذلك تلقف الجميع دعوة وزير الخارجية الكازاخستاني لعقد جلسة حوار سوري – سوري، لأنهم وجدوا فيها بصيص أمل بإيقاف التدهور…
منذ اللحظة الأولى لاجتماعات أستانا، استطاع وفد الجمهورية العربية السورية فرض شرطه الأساس؛ نبذ العنف كأولوية للمحادثات، وهو الأمر الذي تُرجم على الأرض على شكل «مناطق خفض التصعيد»، مع احتفاظ الدولة السورية بحقها في محاربة تنظيمي «داعش والنصرة» لكونهما تنظيمين إرهابيين بمعايير الأمم المتحدة.
حاول حلف العدوان تصوير الأمور على أنها «انتصار له»، من خلال تثبيت وجوده كطرف على الأرض، ولقيت هذه الصورة الإعلامية تصديقاً لدى بعض مؤيدي محور المقاومة فارتفعت أصواتهم مطالبة بعدم القبول بـ «اتفاق أستانا»، وباللجنة الدستورية، والمبادرة إلى استكمال العملية العسكرية، لكن القيادة السياسية والعسكرية السورية صمدت أمام ضغوط الأعداء للقيام بتراجع غير مبرر، وضغوط المؤيدين للقيام باندفاع غير مدروس، وبتناغم غير مسبوق بين العمليات العسكرية والدبلوماسية استطاعت تحقيق انتصارات متوالية على الأرض، من دون قطيعة مع الجهود الدبلوماسية، رغم كل الاستفزازات التي قام بها محور العدوان، والتي وصلت إلى العدوان المباشر من قبل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا على الأراضي السورية، والاحتلال الأمريكي والتركي لأراض سورية، بل إن مسار أستانا أصبح مصدر تفاؤل لأنصار سورية لأنه أصبح مرتبطاً بإنجازات كبرى على الأرض مثل تحرير القلمون أو حلب.
مع اقتراب عام 2016 من نهايته، انطلق الجيش العربي السوري بزخم عمليات عسكرية غير مسبوق، وبدأت حصون الإرهاب تتساقط الواحد تلو الآخر، ولم ينته عام 2017 إلا والجيش العربي السوري يسيطر على حوالي 80% من الجغرافيا السورية، مع يقين عند جميع الأطراف أن تحرير ما تبقى من الأرض السورية ليس سوى مسألة وقت، وقد جاءت عملية تحرير الغوطة الشرقية سريعة وخاطفة إلى درجة لم تسمح لحلف العدوان بالاستفادة من مسرحية «الكيماوي» التي فبركها، وطوى النسيان اللجنة الدولية التي جاءت للتحقيق، بعد عملية دبلوماسية سورية– روسية خاطفة أربكت جميع الأطراف، لذلك لم يكن أمام هذا الحلف مع انطلاق معركة الجنوب، سوى إعلان الاستسلام بشكل غير مباشر، جاء هذا الإعلان أولا عبر الأردن التي أغلقت حدودها أمام فلول الإرهابيين وعائلاتهم، ثم تراجع الأمم المتحدة عن السقطة التي وقع فيها الأمين العام أنطونيو غوتيرش «بوجود 350 ألف لاجئ على الحدود»، وأخيراً إعلان الولايات المتحدة عن أنها لن تقدم أي دعم للعصابات المسلحة في الجنوب.
على مدى 35 يوماً من عمر المعركة، لم تبقَ دولة واحدة من دول العدوان لم يزر مسؤول منها موسكو، أو يلتقي مسؤولاً روسياً، والهدف الواضح والمعلن لكل تلك اللقاءات احتواء مرحلة ما بعد النصر السوري، خاصة على تخوم الجولان السوري المحتل، في هذا السياق جاء مؤتمر «سوتشي – أستانة»، الذي تمخض عن ترسيخ النصر العسكري السوري، سياسياً من خلال:
أولاً: التأكيد على الخيار الاستراتيجي السوري بتحرير كامل الأراضي السورية، وهذه المرة لم تكن دعوة شفوية، بل كانت تهديداً صريح على لسان الدكتور بشار الجعفري، الذي أعلن عن أن القوانين الدولية تتيح لسورية تحرير أراضيها بالقوة في حال عدم انسحاب قوى الاحتلال طواعية.
ثانياً: تبني وجهة النظر السورية في عملية إعادة الإعمار، وهو ما تجلى في إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن عدم مشاركة الولايات المتحدة في العملية السياسية نابع من رفض شرطها بتأجيل العمل على إعادة إعمار البنى التحتية في سورية، والتركيز على إعادة إعمار البنى الفوقية التي تتيح تحقيق «الانتقال السياسي».
ثالثاً: تبني الموقف السوري بشأن عودة اللاجئين، وهي عملية مرتبطة بإعادة الإعمار لأن عودة اللاجئين إلى مدنهم ومنازلهم تستلزم بالضرورة إعادة تأهيل البنى التحتية، وقد انعكس هذا التصور من خلال عودة أعداد متزايدة من اللاجئين من لبنان والأردن، وبدء التحضيرات لفتح المعبر الحدودي مع الأردن، وافتتاح خطوط جوية جديدة ما بين دمشق وعواصم عدّة.
رابعاً: تبني وجهة النظر السورية بشأن موضوع تغيير قواعد الاشتباك على خط الفصل في الجولان السوري المحتل، وقد تجلى ذلك بدخول القوات الروسية الحليفة لدمشق على خط الاتفاق وإنشاء 8 نقاط مراقبة على طول خط فصل القوات، وتسيير دوريات مشتركة أممية – روسية، ما يضمن تحقيق الشرط السوري بنزع ورقة منطقة فصل القوات من يد العدو الإسرائيلي، التي يمكن له استعمالها لإعادة إدخال إرهابيين إلى المنطقة، وخاصة أن التقارير تتحدث عن هروب 15 ألف إرهابي من غير التابعين لـ «داعش» باتجاه «إسرائيل» والأردن.
ما بين جنيف 2012 وسوتشي – أستانا 2018 تلقّى العالم بأجمعه دروساً في علم السياسة من سورية، أهمها أن الإرادة السياسية الوطنية المستقلة قادرة بصمودها على تحقيق ما يقرب من المعجزات، وأن ما طرحه الرئيسان بوتين والأسد قبل الأزمة عن تحالف يقوم على مفاهيم سياسية راقية وعادلة، قد ترجماه على الأرض خلال الأزمة وبشكل لافت.. لقد دارت الدوائر على حلف العدوان، وهاهم الذين خرجوا من دمشق يوماً هاربين ومتآمرين آملين بالعودة على دبابة أمريكية، يجوبون الأرض متسولين تحقيق حلم عودتهم إلى دمشق صاغرين، أما «وثيقة جنيف 1» فكان مصيرها، كمصير وثيقة «المقاطعة» التي رفعها كفار قريش في وجه المسلمين، لم يبق منها إلا اسم الجمهورية العربية السورية.