التصهين الغربيّ أمام اختبار «الأبارتايد» الإسرائيليّ.. بقلم: لينا كنوش

التصهين الغربيّ أمام اختبار «الأبارتايد» الإسرائيليّ.. بقلم: لينا كنوش

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٧ يوليو ٢٠١٨

تبنّت إسرائيل قانوناً أساسيّاً يعرّفها كـ«دولة قوميّة لليهود». ورغم الاستنكار الواسع الذي واجهه بوصفه ترسيماً لنظام أبارتايد يجعل العرب مواطنين من الدرجة الثانية، إلاّ أنّه جعل الخطاب الغربيّ المؤدلج الذي يصوّر الدولة العبريّة منارة للديمقراطيّة هباءً منثوراً. وبالتصويت لصالح هذا القانون الذي يحرم العرب من حقّ تقرير المصير ويعتبر «تطوير المستوطنات اليهوديّة قيمة وطنيّة» ويدعو إلى «تشجيعها ودعم إنشائها وتعزيزها»، يسهم العالم بصمته في تسريع مسار التدمير المنهجيّ لشروط وجود المجتمع الفلسطينيّ الذي انطلق في 1948. ويعمل هذا القانون، الذي تعتبره أخفّ التأويلات مأسسة للتمييز، على إضفاء طابع قانونيّ على تدمير مجتمعيّ مُخطط. 
وبقطعه مع الصيغة المُشوّهة «دولة يهوديّة ديمقراطيّة»، حيث لا يتماشى تمييز «يهوديّة» مع ما مقتضيات «ديمقراطيّة»، يضع القانون الجديد المتصهينين الأوروبيّين في موقف فكريّ غير مريح ويهزّ أطروحاتهم التي تتغذى على أساطير تبريريّة إسرائيليّة حول الدولة الديمقراطيّة المبنيّة على القيم الإنسانيّة. وفي حين اهتم النقد لإسرائيل في أوروبا حتى الآن باختلالات نظامها الديمقراطيّ، وهو ما يعتبره الجامعيّ الإسرائيليّ كلود كلاين أنّه «تلمُّس» تقوم به ديمقراطيّة لا تتوقّف عن إعادة خلق نفسها لكنّها تحظى بقاعدة قانونيّة صلبة وتتطوّر باستمرار، صار من الصعب مع هذا القانون أن تُصدّق ادعاءاتهم المضرّة القائمة منذ تأسيس إسرائيل. 
حتى وإن كانت فكرة الديمقراطيّة متناقضة كليّاً مع ممارسة إسرائيل الاستعمار الوحشيّ، والتجريد من الأرض والموارد وتدمير شروط عيش الناس الماديّة، تكيّفت ضمائر الأوروبيّين بطول الزمن على تقديم دعم ثابت للقادة الإسرائيليّين الذين يحسنون الاستفادة من الشعور بالذنب التاريخيّ. هذا التصهين الفكريّ ليس متولداً عن إحساس ثقافيّ داعم للساميّة ومتجذّر في التاريخ الثقافيّ الأوروبيّ، بل هو أساساً ردّ فعل بعد «الهولوكوست». 
وفي واقع الأمر، فإنّ الفلسفة التي تعتبر اليهود عنصراً إيجابيّاً في التاريخ وتعترف بحقهم في الوجود في إطار حقوق الإنسان العام، والتي ظهرت في السياق الثوريّ خلال القرن الثامن عشر، لم تحظ بأهميّة إلاّ مع تطوّر الذاكرة الأوروبيّة المصدومة. صار لـ«الهولوكوست» مكانة مركزيّة في بناء الذاكرة الجمعيّة، رغم أنّ المجازر الاستعماريّة لا تزال مُسقطة منها، وفُسخ من تاريخ أوروبا القلق التعارض الذي امتد طوال قرون بين التوحيد اليهوديّ والمسيحيّة حتى يتسنّى إقامة تواصل تاريخيّ. إذاً، يفرض التصهين نفسه كفكر مهيمن بناءً على ردّ الفعل الدفاعيّ عن «الحقوق التاريخيّة» للشعب اليهوديّ، التي من بينها تأسيس دولة، والتماهي بين اليهود والصهيونيّة التي تمثّل أيديولوجيا قوميّة مستوحاة من الأفكار العنصريّة لأوروبا القرن التاسع عشر. 
منذ خلقها، انخرطت الدولة الإسرائيليّة في منطق حربيّ يقوم على سلب الأراضي وتدمير القرى وارتكاب مجازر جماعيّة (وهو منطق دشنته الممارسة الاستعماريّة الغربيّة)، كُشف مداه لاحقاً في أعمال مؤرخين إسرائيليّين، على غرار إيلان بابيه وبيني موريس (وهو صهيونيّ متشدّد)، الذين دوّنوا وقائع التطهير الإثنيّ في فلسطين. مع ذلك، يبقى الخطاب الأوروبيّ المتصهين منغلقاً في وجه أيّ تحدٍ مبنيّ على الوقائع، ويستمر في ترداد أسطورة وجود دولة ديمقراطيّة ومساواتيّة، ما يدلّ على أنّه ردّ فعل عاطفيّ. ورغم براعتهم في استحضار حريّة التعبير والتمثيل العربيّ في الكنيست، أو إنشاء لجان لبتّ المسؤوليّة الإسرائيليّة في المجازر، يتهرّب المتصهينون الأوروبيّون عندما يصل النقد إلى النظام القمعيّ والاعتقال الإداريّ للأطفال والاحتجازات التعسفيّة لمساجين سياسيّين فلسطينيّين، التي تشكّل استعماراً مدنيّاً واسعاً يحميه الاستعمار العسكريّ الإسرائيليّ الذي يكبّل الحياة اليوميّة لشعب تُنزع عنه إنسانيّته. 
يسمح الخطاب حول الحداثة الغربيّة بتجاهل هذا التناقض، فهو يوجّه من جهة نقداً قاسيّاً لـ«الظلاميّة الدينيّة»، ويدعم من جهة أخرى، وعلى نحو لا مشروط، دولة أساسها القانونيّ نصّ دينيّ ومبنيّة على أسطورة مؤسسة تربط شعباً بدولة باسم المثال الديمقراطيّ. لكن هذا القانون الأساسيّ الجديد الذي جاء لـ«ينقش على الرخام» حقيقة مستفزّة مسكوت عنها: «إسرائيل دولة قوميّة للشعب اليهوديّ»، ولتشجيع تأسيس مستوطنات مدنيّة، لم يعد الدفاع عن التناقض ممكناً. في هذا السياق الجديد، تكشف الحجّة العامّة المؤسسة على الدفاع عن الديمقراطيّة النفاق الذي يلفّ هذا الخطاب في وضح النهار.