أميركا وإسرائيل والمتغيرات الدولية.. بقلم: د. يوسف جاد الحق

أميركا وإسرائيل والمتغيرات الدولية.. بقلم: د. يوسف جاد الحق

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٤ يوليو ٢٠١٨

قد لا يكون جديداً القول إن أميركا تعيش اليوم أسوأ أحوالها على أكثر من صعيد، فهي أولاً: تعاني أزمة اقتصادية مالية تمسك بخناقها، آخذة في التفاقم أكثر فأكثر يوماً بعد يوم. لقد بلغت مديونيتها للصين ولدول أخرى رقماً قياسياً، إضافة إلى عجز ميزانيتها بما ينوف على أربعة تريليونات من الدولارات.. ولربما يعزى هذا الوضع البائس إلى سببين رئيسيين، أحدهما مغامراتها العسكرية العدوانية التي تدفعها إليها جماعة (المحافظين اليهود الجدد)، إذ هم يصورون لها أنها سيدة العالم بلا منازع، وأنها المهيمنة الوحيدة على أقداره ومقدراته، فتشن حروباً على العراق وأفغانستان والصومال، في وقت واحد تقريباً. وثانيهما الألاعيب اليهودية بمقدراتها المالية والاقتصادية في عمليات المضاربات العقارية، والبورصة وغيرها من أوجه النشاط الاقتصادي والإنتاجي، وقد نضيف إلى هذا سطوة هذه الجماعة على الإدارة الأميركية ولاسيما في عهد جورج بوش الابن إلى حد تسخيرها في خدمة الأهداف الصهيونية الإسرائيلية ولو حتى آخر جندي أميركي، وآخر دولار أيضاً!
ثانياً: تعاني أميركا الآن هزائم سياسية في أكثر من ميدان، فهي لم تعد قادرة على التحكم في قرارات المحافل الدولية، كمجلس الأمن، وهيئة الأمم المتحدة، وهيئة اليونيسكو، وغيرها، كما كان عليه الحال فيما مضى وإلى أمد طويل، ولاسيما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في أوائل التسعينيات. يحدث هذا في وقت شرعت فيه تكوّن قوى عظمى مناهضة لسياساتها، تتمثل في الوقت الحاضر في دول الـ(BRIX) روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا. بل إن دولاً كثيرة في أماكن شتى من العالم لم تعد تكترث لتهديدات أميركا سواء عن طريق (القوة) أو (حجب الدعم المالي والمعونة المالية)، إذ إنها باتت عاجزة عن تنفيذ هذه وتلك تبعاً لظروفها الراهنة آنفة الذكر.
هذا فضلاً عن انكشاف ادعاءاتها الكاذبة المضللة حول رعايتها لحقوق الإنسان، في الوقت الذي رأى العالم، ويرى في كل يوم اختلال الموازين، وتعدد المكاييل التي تزن بها وتكيل في مختلف القضايا العالمية والإنسانية. وليس أدل على ذلك من موقفها من الممارسات الإسرائيلية، فعلى مدى عقود طويلة لم تسمح حتى بمجرد إدانتها (ولو بالكلام وحده)، الذي لا يقدم ولا يؤخر، على حين تصدر في كل عام قوائم بأسماء دول تنسب إليها انتهاك تلك الحقوق، كما يحلو لها أن تطلق عليها تسميات مختلفة عجيبة (كالإرهاب، وقوى الشر) وما إلى ذلك من ترهات وأباطيل.
ثالثاً: تمارس أسوأ أشكال التمييز العنصري سواء على شعوب دول في أماكن كثيرة من العالم، أو على أرضها بين فئات من الشعب الأميركي نفسه، ناهيك عن اختلال الموازين في الدخل وفرص العمل، وسيادة البطالة، والتقشف، والفقر في الأوساط الشعبية، ولاسيما لدى المواطنين الأصليين السود ـ هذه الأخيرة تسمية أميركية ـ وقد أمسى العالم يرى المظاهرات في (وول ستريت) وأمام البيت الأبيض ذاته، احتجاجاً واستنكاراً للسياسات الاقتصادية المنحازة والمجحفة بحق هؤلاء، على حين يعفى من الضرائب كبار الرأسماليين، ومحتكري صناعة السلاح والنفط، والبورصة وغيرها وغيرها، (وجلهم بالمناسبة من اليهود). وهي (رابعاً) قد هزمت على الصعيد العسكري في كل مكان قامت بالعدوان الحربي عليه. لقد خرجت من العراق بعد ثماني سنوات متصلة تجر أذيال الخيبة. وقد كلفتها تلك الحرب من القتلى في جنودها، والخسائر في معداتها وخزينتها، ما لا حصر له، ولا قبل لها به. صحيح أنها أحلَّت في العراق دماراً وخراباً، وجرائم لا إنسانية في أهله ما يندى له الجبين، إلا أنها خرجت في نهاية المطاف مهزومة مدحورة. وفي أفغانستان ها هي ذي لا تعرف، حتى الآن، وبعد انقضاء ما ينوف على تسع سنين، كيف تخرج من ورطتها ـ وحلف الأطلسي معها ـ في ذلك البلد الذي كادت تقضي على أسباب الحياة فيه، ناهيك عن ممارسات جنودها والمرتزقة الذين كانوا ـ ومازالوا ـ يتخذون من القتل وسيلة للتسلية والمراهنة على أرواح البشر ودمائهم. ومما لا ينساه أحد أفضالها في (غوانتانامو) وهو وحده كفيل بأن يضع أميركا في أدنى المستويات الأخلاقية والإنسانية.
في كل ما سلف نجد أيدي (المحافظين اليهود الجدد) واللوبي اليهودي وإسرائيل وراءه. كيف لا وأميركا هي (الشريك الكامل) لإسرائيل..؟
ولا يفوتنا هنا أن نعرِّج على الحالة الإسرائيلية في وقتنا الراهن، فما تعانيه هذه ليس أقل مما تعانيه أميركا، إن لم يكن أشد سوءاً، بحيث إنها هي نفسها باتت تدرك أنها بدأت عدها التنازلي المفضي في نهاية المطاف إلى زوالها كياناً ووجوداً من هذه المنطقة التي فرضت نفسها عليها ـ بدعم من قوى معادية لأمتنا ـ لحقبة من الزمن، أشاعت فيها الموت والدمار لشعب مسالم يعيش على أرض فلسطين منذ آلاف السنين.
بيد أن الأمور تغيرت اليوم، فهاهي إسرائيل تلحق بها سلسلة من الهزائم المتلاحقة بدءاً من عام 1973، في حربها مع مصر وسورية، ثم تتلقى بعد ذلك هزيمة أخرى عام 1982 في لبنان، ثم تخرج في عام 2000 من جنوب لبنان صاغرة تحت ضربات المقاومة اللبنانية. أعقب ذلك هزيمة لها جديدة عام 2006 في جنوب لبنان كما حدث الشيء نفسه في غزة عام 2008/2009، غزة تلك الرقعة الصغيرة من الأرض (260 كم2)، المفتوحة ميدانياً وتضاريسياً حيث لا جبال ولا غابات تقيها ضربات الطيران الإسرائيلي وقصف دباباته ومدفعيته. ولا ننسى هنا ما بدا من ضعفها أمام الانتفاضات الفلسطينية المتتالية، حتى أمام حجارة أطفالها ومقاليعهم.
إذاً لم تعد إسرائيل تلك القوة التي أخافت الكثيرين ذات يوم بفعل إجرامها غير المسبوق من ناحية، وآلة الإعلام المضلل والمهوِّل لقوتها من ناحية ثانية. إن انتكاساتها وهزائمها المتتالية ما هي سوى مقدمات لما هو آت. ولا يساورنا الشك في أنها سوف تدفع الثمن لكل ما قامت به إزاء شعب فلسطين وشعوب عربية أخرى.
من هنا نرى أن المستقبل ينبئ بأن هاتين الدولتين المتغطرستين تواجهان مستقبلاً (مشتركاً) واحداً، سوف يحيل البيت الأبيض إلى بيت أسود، كما يحيل إسرائيل إلى خبر كان. الظواهر المشهودة اليوم والمتغيرات المتسارعة على الصعيد العالمي تؤكد هذه الحقيقة.
لقد أثبت التاريخ عبر عصوره المتوالية أن ما يخالف سنن الكون لا ديمومة له، وإسرائيل خالفت قوانين الأرض وشرائع السماء والسنن الكونية في كل ما أقدمت عليه. بل إن وجودها نفسه على أرض اغتصبتها، وشعب شردته وقتلت ما لا يحُصى عدداً من أبنائه، فضلاً عما أحاقت به من مآسٍ وويلات لا حصر لها سوف يفضي في نهاية المطاف إلى زوالها شأنها شأن غزوات كثيرة عرفها التاريخ على هذه الديار المقدسة.
أجل، لقد بدأ العد التنازلي في كلتا الدولتين أميركا وإسرائيل وإن غداً لناظره قريب.