ترامب وبوتين في هلسنكي: دولة المخابرات الأميركيّة.. بقلم: أسعد أبو خليل

ترامب وبوتين في هلسنكي: دولة المخابرات الأميركيّة.. بقلم: أسعد أبو خليل

تحليل وآراء

السبت، ٢١ يوليو ٢٠١٨

لم يسبقْ أن أصيبت المؤسّسة الحاكمة في واشنطن بالذعر والغضب الذي أصابها يوم لقاء القمّة الأخير بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، وما تلاه من تصريحات لترامب شكّك فيها في صحّة مزاعم أجهزة مخابراته. ومشكلة ترامب في الحكم - أو واحدة من مشكلاته - أنه لم يحظَ بعد بثقة أو تأييد المؤسّسة السياسيّة الحاكمة، بشقيْها الجمهوري والديموقراطي. وهذا لا يظهر في مداولات الجمهوريّين في الكونغرس لأن الحزب الجمهوري (أو أي حزب حاكم) يتحوّل تلقائيّاً - وفق طقس سياسي أميركي تقليدي- إلى أداة بيد الرئيس الحاكم. ولم يسبق في الحقبات السياسيّة الماضية أن وصل رئيس إلى سدّة الرئاسة من خارج الهيكليّة السياسيّة الحاكمة. قد يكون جيمي كارتر استثناءً هو الآخر، لكنه عمل محافظاً لرئاسة جورجيا وكان ناشطاً في الحزب الديموقراطي. ترامب، مثله مثل رجال الأعمال الأثرياء، موَّلَ الحزبيْن على مرّ العقود وأقام علاقات مع جمهوريّين وديموقراطيّين، وكانت آراؤه السياسيّة ليبراليّة في الأمور الاجتماعيّة ومحافظة في الأمور الاقتصاديّة (هذا نهج أثرياء نيويورك). 
لكن ثورةً عارمة أصابت الإعلام الأميركي ومواقع التواصل بعد دقائق فقط من انتهاء المؤتمر الصحافي بين بوتين وترامب. لم تقبلْ المؤسّسة الحاكمة موقف ترامب من الرئيس الروسي في ضوء حالة العداء المتنامية ضد روسيا، التي تعمّ في كل الأوساط الحاكمة والإعلام النافذ ومراكز الأبحاث، من الليبراليّين إلى المحافظين اليمينيّين. وهناك علاقة واضحة بين أجهزة الاستخبارات والمؤسّسة الحاكمة والإعلام (الحرّ افتراضيّاً)، وهي التي تمدّ الإعلام بصورة شبه يوميّة بما يُحرج ترامب أو بما يُضعف مواقفه. هي التي أمدّته مثلاً بتسريبات عن أن النظام الكوري الشمالي لا ينوي أبداً التخلّي عن سلاحه النووي (كأنّ هناك معلومات استخباراتيّة موثّقة عن نيات في رأس الحاكم هناك)، وهي التي تمدّه أيضاً بمداولات سريّة داخل البيت الأبيض. المؤسّسة العسكريّة تتمثّل في الإدارة بشخص وزير الدفاع، جيمس ماتس، وقد حافظَ أخيراً على مسافة واضحة بينه وبين رئيسه، وكان في الأيام الماضية أكثر استشهاداً بنائب الرئيس (وهو أقرب إلى موقف الحزب الجمهوري التقليدي في السياسة الخارجيّة) من الرئيس نفسه. 
عندما تُعلن المؤسّسات الاستخباريّة الحربَ على رئيس أميركي (والأخير يأمرُها، وفق الدستور) فهذا يعني أن خللاً فادحاً قد حلّ بالسلطة التنفيذيّة وأن صراعاً يعتملُ داخلها. المؤسّسات الاستخباراتيّة الأميركيّة لا تريد وجهة سلميّة في العلاقات مع روسيا، وهي من دون مواربة تريد العودة إلى الحرب الباردة التي كانت منجماً من الذهب لها بالنسبة إلى رصد الميزانيّات وزيادتها باضطراد كلّما بالغت في تقييم قوّة العدوّ، كما فعلت في الحرب الباردة. وكلّما ساد التوتّر والصراع في العلاقات الدوليّة، عاد ذلك بالنفع على الأجهزة السبعة عشر الاستخباراتيّة التي تقتسم فيما بينها أكثر من ستين مليار دولار من ميزانيّة خاصّة بها (خارج ميزانيّة الدفاع التي تصل إلى نحو ٧٠٠ مليار دولار، وهي غير مُعلنة في الميزانيّة الرسميّة لكن «فدراليّة العلماء الأميركيّين» تعطي تقديرات سنويّة غير رسميّة). وترامب، في تشكيكه المُبكر بمصداقيّة أجهزة الاستخبارات (التي كانت مثلها مثل أجهزة الدولة تفضّل هيلاري كلينتون عليه)، أعطى تلك الأجهزة مبرّراً كي تفتح الحربَ عليه. هي تشكّل مع القيادة العسكريّة، وأجهزة الدولة الأخرى المعنيّة بالسياسة الخارجيّة والدفاع، تلك العناصر في قيادة الإمبراطوريّة التي تمنع الرئيس الأميركي - لو أرادَ - أن يحيد عن خط السياسة الإمبراطوريّة التي رست بعد انتهاء الحرب الباردة. والعلاقة مع روسيا بعد انتهاء تلك الحرب كانت سويّة فقط عندما كانت روسيا خانعة مُطيعة، كما كانت في عهد يلستن وفي السنوات الأولى من عهد بوتين.
والأزمة السياسيّة الحاليّة وما رافقها من تخوين عارم لترامب هي أزمة في النظام السياسي الأميركي أكثر مما في السياسة الخارجيّة. الحزب الديموقراطي في أزمة عميقة نتيجة تدهور تمثيله الشعبي في نظام مُفصّل قبل أكثر من قرنيْن، إذ بات يعاني من تناقض بين التمثيل الشعبي العددي وبين التمثيل الذي يفرضه الدستور، الذي يوازن بين ولايات ذات عدد سكاني يقلّ عن المليون وولايات ذات ثقل سكاني بحجم ٤٠ ميلون نسمة (مثل ولاية كاليفورنيا). وتتوازى الولايات في التمثيل في مجلس الشيوخ لكنها تعتمد التمثيل العددي في مجلس النوّاب. لكن الانتخابات الرئاسيّة تعتمد على تمثيل معقّد يعطي حظوة لولايات زراعيّة يضعف التمثيل الديموقراطي فيها. وقد لفتت مجلّة «إيكونمست» إلى تناقص التمثيل الديموقراطي إلى درجة أن الحزب الديموقراطي لا يسيطر إلّا على حاكميّة ١٦ ولاية من أصل ٥٠. والجنوب بات معقلاً للحزب الجمهوري بعد أن كان حتى السبعينيات معقل «الديموقراطي». هجره الناخبون البيض زرافاتٍ زرافاتٍ لأسباب عرقيّة وأخرى اقتصاديّة.
والانشطار السياسي بلغ حدّاً لم يسبق في التاريخ المعاصر. وهذا الانشطار تتحمّل مسؤوليّته المجالس الاشتراعيّة المحليّة التي تعيد رسم الدوائر الانتخابيّة في الولايات وفق سيطرة الحزب ذي الأكثريّة، وعليه إن التمثيل في مجلس النوّاب بات أكثر تباعداً عمّا كان، ما قلّلَ حجم الوسطيّة التي طالما لعبت دور المُقرِّب بين الحزبيْن في الكونغرس الأميركي. الانتخابات باتت لا تؤدّي إلّا إلى تمثيل أقصى اليمين في الحزب الجمهوري وإلى تمثيل ديموقراطيّين غير وسطيّين في الحزب الديموقراطي. والقيادة الديموقراطيّة لا تزال تقليديّة التوجّهات وأقلّ ليبراليّة من القاعدة الناشطة في الانتخابات التمهيديّة الحزبيّة (اشتكت هيلاري كلينتون أن أكثر من ثلث ناشطي الحزب الديموقراطي في ولاية أيوا الزراعيّة يصنّفون أنفسهم على أنهم اشتراكيّون). وأزمة «الديموقراطي» أنه يستحوذ تأييد الملوّنين وأكثريّة النساء (نالت هيلاري ٥٤ ٪ من مجمل أصوات النساء لكن ترامب نال ٥٣٪ من مجمل أصوات النساء البيض) لكنه لا يستحوذ أبداً على أكثريّة البيض. نال ترامب ٥٧٪ من أصوات البيض فيما حازت هيلاري ٣٧٪ منها. لكن البيض أكثر نشاطاً من الأقليّات في الاقتراع والحركة السياسيّة والتمويل، لأن الفقر يتناقض مع النشاط السياسي، ونسبة الفقر بين الملوّنين (باستثناء الآسيويّين) هي ضِعف نسبتهم بين البيض. وترامب لا يزال يتمتّع بتأييد ٤٣٪ من مجمل الأميركيّين الراضين عن أدائه في الحكم، وهذا غائب من تغطية النخبة التي توحي للقراء حول العالم أن آراء النخبة والناس العاديّين متطابقة.
هذا الانشطار يعني أن ترامب يحتاج فقط إلى الحفاظ على تأييد قاعدته (من البيض خصوصاً الذكور، بالإضافة إلى نسبة لا بأس بها من الأميركيّين ذوي الأصل الللاتينية: صوّتَ ثلثهم لترامب في الانتخابات الماضية). وكلّما أجمعت النخبة الإعلاميّة على نبذ ترامب، تمسّكت به القاعدة؛ وهذا درس لم تتعلّمه النخبة من تجربة مواجهة ترامب الناجحة لـ١٦ منافساً في انتخابات الحزب الجمهوري الداخليّة للترشيح الرئاسي. ونسبة تأييد ترامب بين مؤيّدي «الجمهوري» تقارب 90% وهي من أعلى النسب لرئيس منذ رئاسة ترامب.
اجتماعات القمّة بين الرئيس الأميركي ورؤساء الاتحاد السوفياتي (وروسيا فيما بعد) لها رهبة معيّنة في السياسة الأميركيّة. السياسة الخارجيّة الأميركيّة بُنيت على المواجهة والمنافسة واحتدام الصراع، و«استراتيجية الأمن القومي» الأخيرة (في عهد ترامب) رسمت بياناً لمواجهة منافسة من روسيا والصين معاً (الوثيقة تعبّر عن دولة الإمبراطوريّة أكثر من مزاج ترامب). تتوقّع المؤسّسة الحاكمة من الرئيس في اللقاء مع الزعيم الروسي أن يفرض أجندته وموقفَ دولة المخابرات وألّا يتنازل قيد أنملة. لقاء القمّة بين خروتشوف وجون كنيدي في فينّا في حزيران ١٩٦١ اعتُبرَ فاشلاً أميركيّاً. وشعر كنيدي أن خروتشوف «مسح به الأرض» في القمّة، وهو تجاهلَ نصيحة وزرائه بأن يتجنّب جدالاً أيديولوجيّاً مع خروتشوف. وشعر كنيدي أن الأخير هزمه في المناظرة، كما أنه فشل في طرح دعم دولته للمواطنين في برلين.
يُشدّد دائماً في كتب المؤرّخين عن ضرورة التحضير الجيّد للقاءات القمّة بين الرئيسين الأميركي والروسي. رونالد ريغان مثلاً قبلَ - خلافاً لمشورة وإصرار معاونيه - عقد لقاء قمّة متسرّع في ريكيفافيك عام ١٩٨٦، وكاد أن يُقدِم على تنازلات جمّة ما دفع بمعاونيه لحثّه على عقد قمّة لاحقة (ومرّة قبل لقاء قمّة لم يقرأ ريغان الملف المتعلّق بالقمّة في الليلة التي سبقت عقدها لأنه استغرق في مشاهدة فيلم «صوت الموسيقى»، كما روى لو كانن في كتابه «رونالد ريغان: دور للحياة»، ص. ١٢٥). 
أما ترامب، فهو مثل ريغان، لا يحضّر للقاءاته ويعتد بذكائه وقدرته على خوض مفاوضات من دون قراءة أو تحضير مسبق (أعدّ له مساعدوه ملفّاً من مئة صفحة وهو عادة يرفض قراءة مذكرة تمتدّ على أكثر من صفحة واحدة). وهو مزاجي في قراراته ويضطرّ أحياناً إلى التراجع عندما تحيد تغريداته عن خط الإمبراطوريّة. ولأنه غير متمرّس في شؤون السياسة الخارجيّة، فإنه لا يعتمد على النمط المُعتمَد في إدارتها. كانت قمّته مع الزعيم الكوري الشمالي مثالاً: القمّة تأتي عادة لتتويج أشهر من المُفاوضات الشاقّة بين دولتيْن وتتضمّن توقيع اتفاقات تفصيليّة، خصوصاً أن حالة من العداء (وحتى الحرب، إذ إن إعلان نهاية الحرب الكوريّة في عام ١٩٥٣ لم يُتَفق عليه بسبب تعنّت كوريا الجنوبيّة يومذاك) تسود بين الدولتيْن. ترامب عكسَ مسار المفاوضات واجتمع مع الخصم الكوري الشمالي على أمل أن ينهي مساعدوه في مدة زمنيّة اتفاقات موقّعة بينهما. لكنه اتفق في الخطوط العامّة على ما توافق عليه إدارة الإمبراطوريّة، وهي على الأرجح سارعت إلى تعطيل التوافق بين الدولتيْن في أوّل اجتماع بين بومبيو وكيم جونغ أون. يكتشف ترامب بالتدريج أن دولة أجهزة الاستخبارات أقوى من الرئيس، لو أرادَ أن يصارعها. وخلافاً للرئيس، تكاد الرقابة ومحاسبة أجهزة المخابرات تكون معدومة، حتى بعد إصلاحات لجنة «تشرش» في السبعينيات.
مرّت ساعات فقط على كلام ترامب في مؤتمره الصحافي الذي قبلَ فيه نفي بوتين مؤامرة روسيّة «لتعطيل» الديموقراطيّة الأميركيّة. وهذه المؤامرة تشغل النخبة الحاكمة هنا، كما شغلتها من قبل المؤامرة الشيوعيّة. وأي تشكيك بصحّة المؤامرة تُواجَه بالتشكيك والتخوين. وقد تعرّض ترامب بسبب كلامه لحملة تخوين (من ساسة وإعلاميّين وخبراء أبحاث) لم يسبق أن تلقّاها رئيس أميركي من قبل. ولم يسبق أن اتُهم رئيس في تاريخ الجمهوريّة بالخيانة (الرئيس سامويل بيرس تعرّض لتشكيك بسبب ميوله «الجنوبيّة»). والتخوين ومحاكمة الرئيس، وفق الدستور، هو من اختصاص الكونغرس (حيث يلعب مجلس النوّاب دور هيئة اتهام، فيما تجري المحاكمة نفسها في مجلس الشيوخ الذي يقرّر مصير الرئيس). لكن مدير المخابرات الأميركيّة السابق، جون برنن (الذي قال في ٢٠١١ في اجتماع في البيت الأبيض إن العرب غير مستعدّين للديموقراطية) حكمَ بخيانة ترامب على «تويتر»، وتبعه آخرون، والصحافة المحافظة والليبراليّة أجمعت على إدانة ترامب. جريمة ترامب أنه شكّكَ في اتهام أجهزة المخابرات لروسيا بتعطيل المسار الديموقراطي الأميركي. والتشكيك في تقارير وأحكام أجهزة المخابرات من الكبائر الوطنيّة هنا، رغم تاريخ طويل من الأكاذيب والفبركات والتزويرات. هاكمْ هذا الخبر من «نيويورك تايمز» في عدد ١٩ شباط ٢٠٠٢: «البنتاغون يعدُّ خططاً لمدّ وسائل الإعلام بأخبار، وحتى يمكن أن تكون (أخباراً) مزيّفة، لوسائل إعلام أجنبيّة كجزء من جهد جديد للتأثير في الرأي العام (العالمي) والمسؤولين في بلدان صديقة وغير صديقة، وفق مسؤولين عسكريّين (أميركيّين)».
ولم تؤثّر أكاذيب المخابرات الأميركيّة في الاستعداد لغزو العراق على سمعتها. والشعب الأميركي يثق بأجهزة الأمن والمخابرات والقوّات المسلّحة أكثر من أي جهة أخرى في الدولة والمجتمع. وتحدّي تلك الأجهزة مكلفٌ سياسيّاً حتى للرئيس الأميركي. لكن في الصراع الدائر، ترامب - على علّاته الكثيرة - على حق. ليس هناك مِن دليل (وهو يملك معلومات استخباراتيّة لا يملكها الشخص العادي) لدينا أن الحكومة الروسيّة تآمرت لتغيير نتائج الانتخابات. ثم ما هذه الديموقراطيّة الهشّة التي تستطيع دولة أجنبيّة أن تقوّضها بغزوات على مواقع الإنترنت؟ هل هناك وجود استخباراتي-دعائي روسي على مواقع التواصل؟ حتماً، لكن بنسب أقل بكثير من الوجود الهائل للمخابرات الأميركيّة ولمخابرات دول الخليج التي تطغى على مواقع التواصل العربيّة وتكون مستنفرة دوماً للرد - من حسابات وهميّة - على أي نقد للطغاة (شركة «تويتر» لا تزيل من الحسابات تلك التي تخدم أغراض أميركا وإسرائيل وحلفائهما). إن تقرير أجهزة المخابرات الثلاثة (أي المخابرات المركزيّة ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الأمن القومي) أوردَ فقط أنهم «على درجة عالية من الثقة» بوجود مؤامرة روسيّة. لكن هذا كلام لا يوحي بدليل قاطع أبداً. على العكس، إنه يوحي بدليل غير مؤكّد، كما كانت أدلّة أسلحة الدمار الشامل العراقيّة. والتقارير المنشورة تقول إن أجهزة المخابرات الأميركيّة لم تكن متوافقة بالكامل على صحّة نظريّة المؤامرة الروسيّة. كانت القمّة بين ترامب وبوتين مناسبة للأخير لإحداث تغيير في إجماع النخبة في السياسة الخارجيّة، كما حاول أن يفعل في العلاقة مع كوريا الشماليّة. ليس كل مسار ترامب في السياسة الخارجيّة مجنوناً تماماً، كما يشيع خصومه هنا. هناك منطق انعزالي (بالمعنى الأميركي) في خياراته التي تنبع من المصلحة الاقتصاديّة وسعيه لتوفير كلفة الضرائب. هذا لا يعني أن ترامب يمثّل منحىً سلميّاً في السياسة الخارجيّة. لا، لكن منحى خصومه (من الديموقراطيّين ومن النخبة الإعلاميّة والمثقّفة) أخطر وأعنف بكثير من خيارات ترامب؛ هؤلاء لا يشبعون من الحروب، مهما كلّفت مالياً وبشريّاً. هؤلاء يريدون حرباً بلا هوادة ضد روسيا عقاباً لها على مؤامراتها المزعومة. الحزب الديموقراطي لا يريد أن يعترف أنه خسر الانتخابات بسبب فشل مرشحته في حملتها الباهتة، بالإضافة إلى خذلان الحزب للناخبين من العمّال. كما أن ترامب مرشّح العنصريّة البيضاء، وهو حاول تصديرها في قمّة الأطلسي عندما اشتكى من تغيير ثقافة أوروبا بواسطة المهاجرين. الحزب الديموقراطي يحتاج إلى ترويج المؤامرة الروسيّة لنفي تهمة فشله الذريع. وفي المقابل، كيف يمكن أن يقبل ترامب صحّة مؤامرة روسيّة - حتى لو ثبتت- عندما يؤدّي ذلك إلى تقويض شرعيّة انتخابه. هذه هي حقيقة الأزمة بين الرئيس وخصومه من الحزبيْن. نخبة الحزب الجمهوري شعرت بالمهانة من فوز ترامب لأن ذلك تعبير عن ضيق من الناخبين الجمهوريّين من الطاقم الجمهوري الحاكم (لكن قادة الحزب الجمهوري لا يجاهرون في انتقاد ترامب لعلمهم أن القاعدة تقف معه بصلابة، حتى لو صدر دليل دامغ على صحة المؤامرة الروسيّة).
ستكون نتائج القمّة الأخيرة محدودة. بوتين يريد تطبيعاً في العلاقة مع أميركا طمعاً برفع العقوبات المفروضة على بلاده. وترامب، كعادته، ينظر إلى السياسة الخارجيّة من منظوريْن: ١) منظور المصلحة الاقتصاديّة التي يمكن له أن يبيعها إلى الناخب الأميركي في الانتخابات و ٢) منظور بناء المجد الشخصي وتعزيز الرصيد الذاتي عن إنجازات له. هو يبالغ في أهميّة الاجتماع أو اللقاء أو القمّة لأنه لا يفصلُ بين مضمون اللقاء السياسي وشكل اللقاء. كانت قمته مع كيم مهرجاناً دعائياً يفتقر إلى المضمون. لكن يبدو أن الزعيميْن (الروسي والأميركي) توصّلاً بسرعة إلى اتفاق في ما يتعلّق بأمن العدوّ الإسرائيلي. أجمعا على الإشادة ببنيامين نتنياهو وعلى اعتبار أمن دولة الاحتلال أولويّة في أي تسوية في سوريا. لكن لن يستطيع ترامب مهما حاول أن ينهي حالة التوتّر والعداء بين أميركا وروسيا. هذه حالة تريدها المؤسّسة الأميركيّة الحاكمة.
تذكّر حالة الانقسام السياسي والاجتماعي في أميركا بلبنان ما قبل الحرب. والانشطارات العميقة هنا تتقاطع على محاور مختلفة: الذين يفتقرون إلى شهادة جامعيّة ينحازون أكثر نحو ترامب، فيما ينحاز المتعلّمون من سكّان المدن نحو الحزب الديموقراطي. لكن ترامب استطاع أن يعبّر عن غضبة البيض الناقمين على تغييرات الوضع الديموغرافي ويحاولون - وإن بالقوّة - الحفاظ على امتيازات عرقية (كما أن حزب الكتائب في السبعينيات أراد أن يحافظ على امتيازات طائفيّة وطبقية رغم تغييرات ديموغرافيّة كبيرة في توزيع الطوائف). لكن الخوف الأبيض مُبالغ فيه كثيراً؛ إن تحوّل البيض إلى أقليّة بعد سنوات قليلة لا يعني البتّة فقدانهم امتيازاتهم. والملّونون من أعراق مختلفة غير متحدين، كما أن النساء البيض ينحازون إلى حزب التفوّق الأبيض في محطات انتخابيّة كثيرة. والاقتصاد لا يزال بيد البيض.
لن تسمح أجهزة المخابرات لدونالد ترامب بتغيير وجهة السياسة الخارجيّة إلا باتجاه أكثر انحيازاً للعدو الإسرائيلي (كما في كل عهد رئاسي جديد)، وأكثر عداءً لإيران (لكن إمكانيّة الحرب ليست كبيرة بسبب كلفتها على ترامب ودولة الأمن القومي). وحالة الانسجام بين بوتين وترامب لن تُترجم سياسيّاً في حالة وفاق أو قرار بإزالة العقوبات والاعتراف بسيادة روسيا على القرم. والحصار الأميركي-الغربي حول روسيا (تُوِّج بالمؤامرة في أوكرانيا، التي كانت انقلاباً على طريقة انقلابات الحرب الباردة التي ابتدعتها أجهزة المخابرات الأميركيّة) سيستمرّ وينمو. والزيادة في الإنفاق لأعضاء «حلف شمال الأطلسي» لن تكون موجّهة إلى ما يسمّيه ترامب «إرهاب الإسلام الراديكالي»، بل ستحاول شدّ عصب «الناتو» ضد خطر روسي يخفي نيات أميركيّة عالميّة لفرض سيطرة عالميّة. دولة المخابرات تريد عودة سريعة إلى الحرب الباردة، والحرب الباردة - كما في الماضي - لا تُخاض إلّا بالواسطة، في دول نامية فقيرة.