ملامح النظام الإقليمي الجديد انطلاقاً من سورية.. بقلم: علي اليوسف

ملامح النظام الإقليمي الجديد انطلاقاً من سورية.. بقلم: علي اليوسف

تحليل وآراء

الاثنين، ١٦ يوليو ٢٠١٨

استفادت روسيا من حضورها على صعيد تسوية الأزمة في سورية لتشكيل توازن- قد يكون غير مستقر- على مستوى المنطقة بين قوى تبدو غير قابلة للتوافق عبر احتواء الصدام بين جميع الأطراف المتصارعة والمتضاربة في مصالحها الجيوسياسية، وما دفعها للقيام بهذه التوافقات، ولو كان على صفيح ساخن، هو أن موسكو في موقع تعزيز نفوذها سواء ارتفع التوتر أو انخفض.
في الواقع كان للحضور الروسي في سورية هدف واضح هو محاربة الإرهاب، بالإضافة إلى استئناف موقعها كقوة عظمى دولية، وهذا الواقع يعود بطبيعة الحال إلى الحنكة لدى موسكو، مقابل افتقاد إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما للرؤية الواضحة تجاه الأزمة السورية، واستمرار حالة القصور هذه من إدارة الرئيس دونالد ترامب.
في اعتقاد الجميع أن من أهم الإنجازات الروسية من خلال حضورها في سورية هو سحب شريك مهم لأمريكا في المنطقة، أي تركيا، وتحول أنقرة من موقعها كحليف موثوق للولايات المتحدة إلى شريك لروسيا، وبالطبع هذا لا يعفي واشنطن من مسؤوليتها عن تدهور العلاقة مع أنقرة، والتي شكّلت حتى أمس قريب ركيزة أساسية في منطقة الشرق الأوسط، فحكومة الرئيس باراك أوباما، سواء من خلال الانكفاء أو عبر كلام ضبابي قابل لأن يفهم على أنه وعود، دفعت بنظيرتها التركية إلى سياسة متهورة في الشأن السوري، وبدلاً من إدراك الضعف في قراراتها رضيت بالمبادرات الروسية في الشأن السوري ضمن تشكيلة جديدة تحصل على دور محدود فيها.
في الطرف الآخر، ومنذ أن تسلمت إدارة ترامب الملف السوري شعرت بالحمل الذي خلفته لها حكومة الرئيس أوباما، ولكن في الواقع هي بدورها لم تعمد إلى تصحيح الوضع، بل على العكس تماماً، فالضربات الجوية العدوانية ضد مواقع للجيش العربي السوري في عدة مناطق لم تميز ترامب عن سلفه أمام جمهوره الداخلي، لأن هذه الضربات كانت جوفاء دون عواقب، فيما كانت روسيا تظهر متجانسة في خطواتها وثابتة في مواقفها، وهذا ما شكّل الانطباع حول الولايات المتحدة بأنها متبجحة، متذبذبة، ولا يمكن الاعتماد عليها.
قد يكون الوقت قد فات لتتفوق الولايات المتحدة على روسيا في الأزمة السورية، أو حتى لتبلغ درجة التكافؤ معها، والواقع يشير إلى أن على الولايات المتحدة أن تتصرف وكأن الأوان قد آن لإنهاء دورها في سورية، وأن تقدّم اعترافاً تدريجياً بالغلبة الروسية في سورية، وأن تعمد ضمن ذلك إلى التنسيق مع الجهد الروسي الساعي إلى إعادة وحدة الأرض السورية.
واليوم، من العبث أن تقدم الولايات المتحدة الدعم بكافة أشكاله للمجموعات المسلحة بعد قصم ظهرها من قبل الجيش العربي السوري وحلفائه، وإذا أرادت واشنطن أن تفسد الانتصار الروسي، وتدفع بسورية باتجاه المزيد من النزاع والقتال، فإن هذا المسار سينضوي على إخفاق لا شك فيه، لأن الحالة التي تعيشها أمريكا الآن هي أقرب ما تكون إلى منطقة ضبابية تتداخل فيها القرارات، ولكن لا يكفي القول هنا ​إن ​”​انحسار​”​ الولايات المتحدة ​يقاس بصعود غيرها من قوى عالمية، لأن ذلك يحتاج لتدارسه بهدوء.
عن​ حال الولايات المتحدة
​ قبل ثلاثة عقود، وتحديداً في ٩ تشرين الثاني ١٩٨٩ تربعت أمريكا على قمة العالم بعد انتصارها على عدو العقائد والمصالح السوفييتي في الحرب الباردة، ​ومازالت مصممة​ على مواصلة حصار وريثته روسيا عبر فرض الاستتباع، وتطويق الصين بتدرج​ مصحوب​​ بالرهان على أمركة نخب فيها​ للوصول إلى الحكم.
هي عدد من السنين عاشت فيها واشنطن مزهوة بانتصارها، قامت خلالها بإعادة العراق إلى العصر الجاهلي، وفرضت على شعبه حصاراً شاملاً دام ثلاثة عشر عاماً ​أوصلت فيه ​العراق إلى أزمة بنيوية في وجوده، وأزهقت مليون ضحية نصفهم أطفال، ​كما أهانت​ في البلقان​ القوتين ​ذاتيتي​​ البعد الكوني في كرامتهما الجيوسياسية: روسيا بتقويض امتدادها السلافي-الجنوبي، ​والصين بقصف سفارتها هناك.
لكن ما أنتجته في العراق عام 1991 لم يكن إلا نتاجاً شيطانياً زعزع موقع واشنطن على عرش العالم، وحين ضرب الإرهاب البرّ الأمريكي في 11 أيلول 2001، رأى كثيرون أن ما جرى كان انفلات قوة ضربت أمريكا في أعزّ ما تملكه وهو هيبتها، وما كان منها إلا أن تبدد طاقتها في حروب غير متوازية استنزفت فيها كل إمكانياتها، بل أكثر من ذلك تم تمريغ سمعة قواتها في كل مكان.
ولعل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان فسحة لكل من بكين وموسكو، حين حققا خلالها قفزة مكنتهما من امتصاص تداعيات الأزمة المالية الكبرى عام 2008، والمثابرة بعدها على اكتساب المزيد من عناصر القوة، ومفصل تلك الأزمة يستلزم ربطاً بالمخاض الذي سبق، وبالتحول الذي لحق، فلربع قرن سبقها كانت الرأسمالية الأمريكية تخضع لتبدل بنيوي كان أهم محصلاته فقدان قطاع صناعتها المدنية التقليدي، وتحوله إلى الصين الخارجة من شرنقتها بهدوء.
عن​ حال روسيا
استطاع الرئيس فلاديمير بوتين أن يعيد لروسيا نفوذاً عالمياً كان قد ضاع مع سقوط الاتحاد السوفييتي السابق، وبحسم استطاع بوتين أن يصعد بالاقتصاد الروسي، والاهتمام بالسلاح النووي وتطويره، إضافة إلى سياسة خارجية أكثر نفوذاً، خصوصاً مع بدء ولايته عام 2012.
بدأت معطيات التحول الروسي تظهر جلياً مع صعود فلاديمير بوتين على قمة رأس السلطة في روسيا مطلع الألفية الثانية، فقد قدم بوتين إلى الحكم ولديه أجندة واسعة لانتشال روسيا من حالة التيه التي مرت بها منذ بداية التسعينيات بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وانفراط عقد الامبراطورية الحمراء التي خلّفت وراءها حالة تشظّ واسعة ما بين دول صغيرة انفصلت وأسست لنفسها دولاً مستقلة انضمت لاحقاً إلى الاتحاد الأوروبي، ودول أخرى أرادت الاستقلال عن روسيا ودخلت في مواجهة عنيفة مع الدولة الأم، واقتصاد رث يعاني حالة تدهور عنيفة للغاية، ونفوذاً تراجع بفعل سيطرة المافيات ورجال الأعمال على مجريات الأمور السياسية والاقتصادية بالكرملين.
أتى بوتين الذي قضى سنوات طويلة في خدمة جهاز المخابرات السوفييتي الـ “كي جي بي” محاولاً بصعوبة شديدة القضاء على هذه المشاكل، ومن ثم التفرغ لاحقاً لاستعادة مكانة روسيا الإقليمية والدولية، ونجح الرجل حقاً في تحقيق استقرار داخلي بقبضة حديدية وفرتها له خبرته الأمنية.
الصعود الروسي، وتمدد روسيا في مساحات نفوذ وريثتها القديمة، توازى معه انسحاب أمريكي تحت ضغط الاستراتيجية التي وضعها باراك أوباما بالانسحاب التدريجي من مناطق صراعات بعيدة، وبالخصوص منطقة الشرق الأوسط، أو على الأقل عدم التورط الشامل في صراعات المنطقة، وترك إدارة جزء من خلافاتها لبعض دول المنطقة، وهو ما أدى بالتبعية إلى حدوث فراغ نتجت عنه زيادة الوجود الروسي، حتى ولو كان جزء منه في إطار إدارة ملفات متفق عليها مع القوى الكبرى.
مع تصاعد الأزمة في سورية في آذار 2011 أعلن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في آذار 2013 عن نيته توجيه ضربة عسكرية لسورية، وحينها كتب بوتين مقالاً في أيلول 2013 في النيويورك تايمز، يحث فيه الرئيس أوباما للتعاون لحل الأزمة في سورية ويعرض فيه آراء مختلف القادة غير الداعمين لضربة عسكرية لسورية منهم بابا الفاتيكان، كان هذا المقال ذا تأثير كبير.
استطاعت روسيا أن تقود حملة دبلوماسية ضد الضربة العسكرية لسورية، واستخدمت حق النقض في مجلس الأمن ضد الضربة العسكرية، وهنا يتمثل ذكاء الدبلوماسية الروسية في امتصاص غضب الولايات المتحدة بتعويضها بانتصار شكلي عبر موافقة دمشق برعاية روسية على التخلص من الكيماوية السورية.
بعد بدايات انتصار روسيا على الولايات المتحدة في سورية، بدأت الولايات المتحدة بدعم المعارضة في أوكرانيا ضد الرئيس فيكتور يانكوفيتش الموالي لروسيا، استطاعت المعارضة الفوز، وهرب الرئيس يانكوفيتش، وظنت الولايات المتحدة أنها تقدمت على روسيا، إلا أن بوتين كان موجوداً ليضم إقليم شبه جزيرة القرم الهام جداً لروسيا عبر استفتاء شعبي، ومازالت الأزمة في أوكرانيا محل جدال، إلا أنه وبشهادة المحللين الكبار تقدمت روسيا على الولايات المتحدة وأوروبا مرة أخرى.
ولهذا فإن الصعود السريع الذي حققته روسيا خلال الأعوام القليلة الماضية شكل مصدر قلق كبيراً لواشنطن، وقد انعكس هذا القلق بشكل واضح في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية التي دأبت في العامين الماضيين على انتقاد السياستين الداخلية والخارجية لروسيا بشكل علني بهدف الحط من شأنها وتشويه سمعتها وتخويف الآخرين من التعامل معها.
واستخدمت واشنطن في ذلك وسائل عدة وأيضاً جهات عدة منها دول صغيرة من بلدان المعسكر الاشتراكي السابق التي هرولت نحو الغرب طمعاً في الوعود الأمريكية بالرخاء والرفاهية والحرية، في وقت نأت فيه دول أوروبية كبيرة بنفسها عن هذه اللعبة الأمريكية، وسعت لكسب ود وتعاون روسيا.
 
التحالف الروسي- الصيني
بعد الأزمة في أوكرانيا استطاع بوتين إحراز نصر آخر حيث قام بتوقيع اتفاق مع الصين لتزويدها بالغاز الطبيعي لمدة ثلاثين عاماً مقبلة بما مقداره 38 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، وكانت موافقة بوتين على هذه الاتفاقية في ذلك التوقيت حاسمة، حيث استطاع بالاتفاقية تلك أن يضع أقدامه بشكل أقوى في آسيا، وشراكة مع الصين تعتبر تحالفاً قوياً في مواجهة الولايات المتحدة وأوروبا.
في الواقع عكس التعاون المشترك بين البلدين تنامي القناعة الروسية الصينية بحجم التحولات التي حملتها السنوات الأخيرة على العلاقات الدولية، وتزايد المخاوف المشتركة من انعكاسات السياسة الأمريكية على مصالح الطرفين.
وكان واضحاً أن موسكو وبكين تجاوزتا الحذر الذي سيطر حتى وقت قريب على علاقات البلدين لأسباب مختلفة، بينها التغلغل الصيني الواسع في مناطق شرق سيبيريا الشاسعة، إضافة إلى تضارب المصالح الاقتصادية في عدد من الملفات الإقليمية المهمة، هذه الهواجس غابت وحل مكانها إدراك أهمية منح علاقات روسيا والصين صفة “التحالف الاستراتيجي” لمواجهة مساعي الهيمنة الأمريكية، وتداعيات السياسات الغربية على مصالح البلدين.
وفِي الملف السوري بالذات، تعهدت موسكو وبكين بمواصلة تقديم الدعم المشترك لضرورة الحفاظ على وحدة أراضي سورية، واحترام سيادتها، وتأييد التسوية السلمية فيها بأيدي السوريين أنفسهم، وبدعم الأمم المتحدة، وعبر منصتي جنيف وآستانة، واستناداً إلى نتائج مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي، واتفقا على التنسيق المكثف لضمان إعادة إعمار سورية بصورة فعالة.
لقد شكّل التعاون بين الصين وروسيا الأساس القانوني العملي الذي يجمع سياسات البلدين على الساحة الدولية، ومن الطبيعي أن ما يتعلق بالنظام الدولي الجديد وإصلاحات الأمم المتحدة سيشغل حيزاً مهماً بسبب المخاوف المتصاعدة خلال السنوات الأخيرة لدى كل من روسيا والصين من الميل الغربي لاستخدام الفوضى الناشئة عالمياً لفرض تعديلات في النظام الدولي تهدد مصالح “القطب” الروسي – الصيني، المتطلع للصعود بقوة على خلفية إخفاقات السياسات الغربية المتواصلة، ومع الإعلان السياسي، وضعت موسكو وبكين أساساً عملياً لتطوير التعاون الثنائي، عبر توقيع رزمة من الاتفاقات التي حملت طابعاً استراتيجياً، ورسمت الاتجاهات الرئيسية لتطوير التعاون بين البلدين في مجالات عدة، على رأسها مجال الطاقة النووية للعقود المقبلة.
 
خاتمة:
حقيقة، نجحت موسكو في تحويل أولويات السياسة الدولية بعد تدخلها المباشر في مكافحة الإرهاب في سورية، ولأن الرؤية الروسية لا تقوم على فكرة قلب التوازنات، وعرقلة تطور السيناريو السوري، وانتقاله إلى بلدان أخرى، فهي عملت بكل حنكتها في حل صراعات المنطقة بما لا يؤثر على مصالحها، وبالدرجة الأولى التأسيس لمرحلة جديدة في العلاقات الدولية، وهي التي وضعت ملامحها الأولى منذ أن تدخلت في جورجيا عسكرياً في عام 2008، قبل أن تقلب موازين القوى في أوكرانيا في 2014، وتضع القوى الموالية للغرب في مأزق داخلي مازالت تداعياته متواصلة.
يقول فيدور لوكيانوف رئيس مجلس السياسة والدفاع الروسي في هذا الخصوص بأنه في الحالتين الجورجية والأوكرانية، كان الهدف الرئيسي منع اقتراب “الناتو” من حدود روسيا لأن الملف لن يقبل ضم بلدان تخوض حروباً داخلية، لكن في المثال السوري، بدا التحول الروسي صارخاً على خلفية قناعة بأن تكريس الدور العالمي الجديد لروسيا بات ممكناً، في ظل ظروف ناضجة إقليمياً ودولياً، وأكد لوكيانوف أنه منذ عام 2015، بدا واضحاً لروسيا أنه مهما كانت آليات حل الأزمة في سورية، فإن ذلك سيشكّل بداية الطريق لوضع ملامح النظام الإقليمي الجديد، ومن ثم، النظام الدولي الذي سيظهر لاحقاً.