البريكســت.. تداعيـات مؤلمـة.. بقلم: هيفاء علي

البريكســت.. تداعيـات مؤلمـة.. بقلم: هيفاء علي

تحليل وآراء

الجمعة، ١٣ يوليو ٢٠١٨

يبدو أن الحكومة البريطانية باتت مهددة بالسقوط بعدما تلقت الرئيسة ماي ضربة موجعة مع استقالة وزيرين من العيار الثقيل، على خلفية مواقف متباينة بشأن مستقبل العلاقة بين الاتحاد الأوربي والمملكة المتحدة بعد بريكست.
وكان ديفيد ديفيس، وزير بريكست المناهض للفكرة الأوربية، استقال يوم الأحد الماضي تعبيراً عن رفضه خطة ماي للإبقاء على علاقات اقتصادية وثيقة مع الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا منه، وقد وصفت الخطة بأنها “بريكست ناعم” يتعارض مع “بريكست قاس” يدعو له أنصار القطيعة الواضحة مع بركسل؛ وبعد ظهر الاثنين، اختار وزير الخارجية بوريس جونسون المنحى نفسه. ويبدو أن الخلافات قائمة حول طريقة الانسحاب، وفق ما أشارت ماي في خطابها أمام النواب: “نحن على خلاف بشأن الطريقة الفضلى لتنفيذ تعهدنا المشترك بتفعيل نتيجة الاستفتاء الذي أيد فيه 52% من البريطانيين خروج المملكة من الاتحاد”.
التسوية حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، والتي جرت يوم الجمعة الفائت، تركت البنك المركزي بورصة لندن جانبا. وعلى الرغم من عدم وجود أي إعلان مذهل، فإن رحيل سوق لندن المالي بدأ يتزايد، ومن المتوقع أن يغادر ما بين 5000 و10000 مصرفي بورصة لندن بحلول آذار 2019.
وبالتوصل إلى تسوية نهائية مؤلمة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليلة الجمعة، قدمت الحكومة البريطانية اعترافا مذهلا بشكل افتراضي: تركت السوق المالية تسقط، إذ تريد المملكة المتحدة البقاء في السوق الموحدة للسلع، وليس للخدمات. وبالنسبة للتمويل، يتطلب الأمر مجرد “ترتيب مبهم يحافظ على المنافع المتبادلة للأسواق المتكاملة ويحمي الاستقرار المالي”. وفي السياق، قال وليام رايت، مدير مؤسسة نيوفاينانشال المالية: “لأول مرة، لم تلق متطلبات السوق المالية أدنى اهتمام من قبل الحكومة البريطانية، ولم تكن في سلم أولوياتها”.
إن هذا الاعتراف بالضعف لن يؤدي إلا إلى تسريع الهبوط البطيء في حالات مغادرة المصرفيين للندن، والتي بدأت منذ عدة أشهر.. لا إعلانات كبيرة، ولا إغلاق مقرات، ولكن هناك بضع عشرات أو مئات من الأشخاص الذين يعدون حقائبهم.
ووفقا للمعلومات، أعلن البنك الإيطالي Unicredit عن مغادرة خمسة من المتداولين الذين قام بتوظيفهم في ميلانو وستة من موظفي الإدارة؛ وفي وقت سابق، عين “بنك أوف أميركا ميريل لينش” ثلاثة من كبار المسؤولين التنفيذيين في باريس، وهي أول حركة لنحو 400 وظيفة تنتشر بين مختلف بلدان الاتحاد الأوروبي.
في الوقت الراهن، تنقل البنوك العديد من الموظفين وتبقي من هم بحاجة إليهم فقط. والسؤال هو ما إذا كان ذلك مجرد خدش للبنك المركزي، أم انه بداية “نزيف عميق على المدى الطويل”. ولا يزال قدر المؤسسات المالية مرهونا بالمفاوضات الجارية حول بريكست، على أمل التوصل إلى حل، حتى لو كان الاتفاق المالي مع بروكسل يبدو أقل احتمالا، ذلك أنه لم تبدأ النقاشات الرسمية بعد حول هذا المجال بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، رغم أن المفوضية الأوروبية كانت قد اقترحت على المفاوضين البريطانيين فتح، لكنهم رفضوا. يقول مصدر أوروبي: “الأوربيون يعرفون أن البريطانيين لا يحبذون موقفهم من الموضوع”.
يبدو أن حوار الطرشان بين لندن وبروكسل مستمر منذ عامين. فالمملكة المتحدة تريد مغادرة السوق الموحدة وخسارة جواز السفر الشهير الذي يخولها بيع منتجاتها المالية في جميع دول الاتحاد الأوربي، والذي اقترح البنك المركزي الأوروبي استبداله بـ “اعتراف متبادل” باللوائح الأوروبية والبريطانية، حيث يتفاوض كل طرف على القواعد على قدم المساواة. “لا مجال للأسئلة”، أجاب ميشيل بارنييه، المفوض الأوروبي الذي خيّر المملكة المتحدة بين أمرين لا ثالث لهما، فإما أن تقبل التسوية الأوروبية دون أن تقول كلمة واحدة، أو أنها ستفقد النفاذ إلى السوق الأوروبية. في ظل هذه الظروف، وبدون أي يقين سياسي، يكون مصير البريكست في أيدي المنظمين الأوروبيين. كل مؤسسة مالية تتفاوض معهم لمعرفة متطلباتهم بحيث يمكنها الاستمرار في العمل في الاتحاد الأوروبي: هل هناك مكاتب في الاتحاد الأوروبي؟ كم عدد الموظفين؟ ما مستوى المسؤولية؟ كم الأموال الخاصة؟ ما هي نماذج المخاطر؟ يقول بيتر هان، عميد معهد لندن للبنوك والتمويل: “في الوقت الراهن، يتمتع المنظمون الأوروبيون بالمرونة التامة، ولكن ينبغي عليهم، تدريجيا، تشديد قواعدهم، ومحاولة سحب الأنشطة إلى الاتحاد الأوروبي”. علاوة على ذلك، فإن “أصعب شيء هو اتخاذ الخطوة الأولى، وبمجرد أن يستثمر البنك في المكاتب، فإن التوزع المحلي لرؤوس الأموال، والاستثمارات المستقبلية.. كلها أمور تصبح قرارات هامشية” بحسب ويليام رايت.
المسألة ليست مسألة تفكير بأن المركز المالي في لندن على وشك الانهيار! يلخص بيتر هان ذلك بطريقته الخاصة: “على الرغم من انتخاب ماكرون، فإن باقي العالم لن يتعلم الفرنسية”. وإضافة إلى اللغة الدولية، تحتفظ العاصمة البريطانية بكتلة حرجة من الاستشاريين والممولين، والتي سيكون من الصعب جدا استبدالها. “أنا لا أؤمن بتأثير كرة الثلج”، كما يقول. وفي الوقت نفسه، تحارب دبلن وباريس وفرانكفورت ولوكسمبورغ للاستفادة من بريكست. وسويسرا؟ سُمعت بعض الأصوات التي تعتقد أن الاتحاد قد يستفيد، بدءا من بوريس كولاردي، وهو شريك في بنك Pictet الخاص. وللوهلة الأولى، يبدو هذا أمرا بديهيا، فالمؤسسات التي تفقد جواز السفر الأوروبي في لندن لن تنتقل إلى سويسرا، والتي لا تستفيد أيضاً من جواز السفر، ورغم ذلك يمكن أن يكون لبريكست أثر إيجابي.
قال رايت: “قد ترغب المملكة المتحدة في تطوير تعاون أفضل مع سويسرا وفتح أسواقها، على سبيل المثال، مع الاعتراف المتبادل باللوائح”. إضافة إلى ذلك، ستحاول المملكة المتحدة الحصول على تنازلات في بروكسل حول انفتاحها على المنتجات المالية: في حال نجاحها، يمكن أن تندفع برن إلى الخرق لتطلب نفس الشروط. “هذا الأمر يمنح سويسرا إمكانيات واسعة في حال تحقق”، كما يؤكد بيتر هان. وبكل الأحوال، يشير مراقبون إلى أن ظهور تأثير حقيقي للخروج البريطاني سوف يستغرق سنوات، تماماً كما رحيل البنوك البطيء وقد تدفع تيريزا ماي ثمنه.