“علامات الساعة” الغربية إذ تلوح في بلاد الشام.. بقلم: فيصل جلول

“علامات الساعة” الغربية إذ تلوح في بلاد الشام.. بقلم: فيصل جلول

تحليل وآراء

السبت، ٧ يوليو ٢٠١٨

يشبه الغرب هذه الأيام سيارة “رولز رويس” قديمة مازالت تحتفظ بكامل أناقتها لكنها تُصاب دورياً بأعطال في محرّكها وأحياناً في هيكلها، وتحتاج إلى قِطَع غيار باتت نادرة، وبخاصة ميزان “ديريكسيونها ” المعطوب والعصيّ على الإصلاح أقله في المدى المنظور.
 
مَن كان يتخيّل قبل سنتين أن قمة السبعة الكبار في كندا، ستنتهي بلا بيان ختامي، بتغريدة استخفافية من صاحب القوّة الأعظم في القمّة. مَن كان يتخيّل أن ساكن البيت الأبيض يوجّه رسالة تهديد علنية لحليفه البريطاني الاستراتيجي بقوله ” تدفع للحلف الأطلسي أو تحلّ فرنسا مكانك”. مَن كان يتخيّل صراعاً تجارياً مفتوحاً بين أوروبا وأميركا وآسيا بدلاً من الصراع السابق بين الغرب وبقية أنحاء العالم. مَن كان يتخيّل صراعاً بين أوروبا والولايات المتحدة الأميركية حول الملف النووي الإيراني. مَن كان يتخيّل أن يعتبر رئيس أميركي مُنتخَب توقيع سلفه على اتفاقية المناخ وكأنه لم يكن. مَن كان يتخيّل أن سيّد البيت الأبيض يعتبر دول الخليج الحليفة له “صناديق” بلا قيمة سياسية أو استراتيجية وإنها يجب أن تدفع له أتاوات تحت طائلة الزوال بعد أسبوع من تمنّعها. مَن كان يتخيّل أن الصين تنظّم قمّة عالمية مُتزامِنة مع قمّة السبعة في كندا وكأنها تقول لسيّد العالم لم تعد سيّداً مُطلقاً، ولم تعد صاحب القرار الأوحد. تقول الصين نحن هنا! بمليار ونصف المليار مواطن وسيكون لنا طريق الحرير التجاري الذي نريد، ولن يُجديك نفعاً الانتقال الاستراتيجي من الشرق الأوسط إلى بحر الصين..
مَن كان يتخيّل هذا التداعي الغربي؟! لكنه بات أمراً واقعاً يستدعي البناء عليه وبالتالي التفكير ب “عالم ما بعد الغرب” ، وما سنراه في هلسنكي أواسط هذا الشهر وما رأيناه من قبل في سنغافورة قد يكون من علامات زمن ما بعد الغرب .. بل ربما اصطفاف جديد حول توزّع جديد للأسواق والتجارة العالمية.
وفي حين تنكّب نُخَبٌ عديدة في العالم على رسم تصوّرات لما بعد السيطرة الغربية المُطلقة على العالم، نرى النُخَب العربية وكأنها تخشى من التفكير بفترة ما بعد الغرب وهذه مشكلة عويصة في الثقافة السياسية العربية التي تصل إلى استنتاجات تفرضها التطوّرات والوقائع القاهِرة، بعد عقود وسنوات طويلة من تمامها.
لقد تأخّرنا كثيراً باستيعاب دروس ما بعد الحرب الباردة وترانا اليوم لا نريد أن نفكّر بفرضيّة نهاية السيطرة الغربية، بل قل إننا نخاف من التفكير بما بعدها. وفي ظنّي أن هذا الخوف يُميّز النُخَب التابعة التي تنتظر أن يعيّن لها المتبوع ما يليق بها لا أن تعيّن لنفسها. فتلك فطرة الأسياد.
بخلاف النُخَب العربية نجد النُخَب التركية والإيرانية والأثيوبية تعمل بطريقةٍ مختلفة. ولعلّ ما نلاحظه في تركيا منذ صعود رجب طيب أردوغان ما برح يؤكّد هذا المعنى. فقد أدرك أن بلاده مرشّحة للاندماج في غرب ما عاد غرباً، بدليل أن أوروبا تُعيد بناء نفسها بعد حربي أفغانستان والعراق بالقياس إلى أميركا والعالم الإسلامي ، فالقيادة الغربية ما عادت ممكنة طالما أن العالم ما عاد يطيع الغرب.
أدرك أردوغان مبكراً أن علمانيي بلاده ينتمون إلى عالمٍ غربي حدّد لتركيا مجالها الحيوي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وأن احترام الشروط الغربية للمجال الحيوي التركي ما عاد مجدياً، وأن الخروج منها يقتضي بناء عثمانية جديدة وتهميش العلمانية التركية تمهيداً لحفظها في مستودعات التاريخ.
خروج أردوغان العثماني على شروط تكوين الدولة التركية استدعى انقلاباً عسكرياً بدعمٍ واضحٍ من الولايات المتحدة ومحمياتها في تركيا. لكن فشل الانقلاب سيؤدّي إلى اندفاعة عثمانية جديدة غير مسبوقة حملت للمرة الأولى منذ مئة عام قواعد عسكرية تركية إلى قطر وإلى البحر الأحمر ، والأهم من ذلك تمتين العلاقة مع روسيا التي عارضت قلب الحُكم. وسيؤدّي التعاون الروسي التركي إلى مُقايضة التأييد الروسي للكرد في شمال سوريا مقابل رفع اليد التركية عن إسلاميي حلب والغوطة.
وفي السياق نفسه، سينتبه أردوغان إلى أهمية الموقف الإيراني المُناهِض للانقلاب العسكري على حكومته وسيعمل بالاتفاق مع طهران على تعطيل مشروع الاستقلال الكردي في العراق ، وقطع الطريق على مشروع الاستقلال الذاتي لكرد سوريا المدعومين أميركياً وأوروبياً والكفّ عن المُطالبة بإزاحة الرئيس الأسد.
يصعب الحديث عن حلف تركي إيراني روسي ثابت الأركان تنتظمه مصالح استراتيجية طويلة المدى. بل يجوز الحديث عن تشكّل مراكز قوى اقليمية مستفيدة من تفكّك الغرب ومن تراجع نفوذه. ومن غير المُستبعَد أن تجد هذه القوى نفسها مدعوّة للتفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية أو مع أوروبا على اتفاقات تعاون بشروط ما بعد السيطرة الغربية.
لقد خاض الغرب آخر حروبه في سوريا مُراهناً على الإمساك مجدّداً بالشرق الأوسط وإعادة رسم موازين القوى فيه على أنقاض النظام السوري، ولعلّ هزيمته في بلاد الشام هي من أبرز “علامات الساعة” في مصيره. هذا ما ارتسم في مخيّلة الباحث الاستراتيجي الفرنسي أوليفييه روا في مقابلة شهيرة نُشِرَت مؤخراً بقوله ” منذ قرون لم يصمد قائد عربي في مواجهة مع الغرب كما صمد الرئيس السوري بشّار الأسد” ولو ذهب بعيداً لربما أضاف و”سيكون مصير الغرب بعد هذا الصمود شديد الاختلاف عما قبله “.
الميادين