تموضع تركي.. وكذا كردي جديد.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تموضع تركي.. وكذا كردي جديد.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٦ يونيو ٢٠١٨

من المؤكد أن ما من رابط واحد بين ما يجري على الأرض من حراك عسكري أو الوصول إلى توافقات معينة وما شهدته جنيف في الأيام العشرة الماضية ولا تزال، لكن من المؤكد أيضاً أن هناك ثمة رابطاً قوياً بين سريان اتفاق منبج التركي الأميركي وتفعيل اتفاق تل رفعت التركي الروسي، ونظرة سريعة إلى كل من الاتفاقين سابقي الذكر كافية لتؤكد أنهما خالفا كل التفاهمات السابقة، ولذا بات من الممكن القول إن ثمة معادلات سياسية جديدة آخذة بالتبلور، وما التصريحات التركية والإيرانية في هذا السياق إلا مدخل يوصل إلى جعبة كهذه، فقد سبق لوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن أعلن في الثامن عشر من الشهر الجاري أن اتفاق منبج يمثل نقطة تحول حقيقية في العلاقة الأميركية التركية المستجدة، على حين قالت وكالة تسنيم الناطقة بلسان الحرس الثوري الإيراني: إن اتفاق تل رفعت يمثل مرحلة جديدة من التقارب الروسي التركي في المنطقة، والمشكلة هنا هي أن أحد الموقفين السابقين هو الذي يمكن توصيفه بالصحيح أو الدقيق، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يكونا صحيحين في آن واحد فتقارب أنقرة مع واشنطن أمر يفترض تلقائياً تباعدها مع موسكو، ولربما اتضحت تباشير هذه المعادلة السابقة في اجتماع الثلاثي الضامن مع المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا في جنيف يومي 18 و19 من حزيران الجاري، وإذا كان توصيف الفشل يمثل صيغة مبالغة لذلك الاجتماع بدليل أن دي مستورا كان قد دعا الثلاثي نفسه إلى اجتماع آخر في جنيف في غضون أيام قليلة الأمر الذي يدحض ذلك التوصيف، إلا أن من المؤكد أن ثمة «هزهزة» بادية على الديناميكية التركية الجديدة وهي من النوع الذي يمهد لتموضع جديد، وربما ستكون الخطوة التالية فيها عبر الموقف الذي يمكن لأنقرة أن تتخذه من اجتماع «النواة الصلبة» الذي يضم سداسي المجموعة المصغرة يومي 25 و26 حزيران في جنيف أيضاً.
سياسياً تبدو الظروف الموضوعية لانتقال افتراضي من ضفة إلى أخرى قد باتت ناضجة أمام أنقرة، فالرئيس التركي كان قد استحصل في أعقاب مصالحته مع الروس صيف العام 2016 إلى اليوم على شريط جغرافي يمتد من جرابلس إلى الباب إلى أعزاز ومن ثم دعمه بآخر عبر استحواذه على عفرين في آذار 2018 التي قام بربطها مع الشريط الأول لتصبح منطقة النفوذ التركية ممتدة ما بين بداما الواقعة إلى الشرق من اللاذقية بـ25 كم، وبين جرابلس إلى الشرق من حلب بـ125 كم، أما الآن فإن أردوغان يرى أن الروس على الأرجح لم يعد لديهم ما يقدمونه له، وفي ظل البراغماتية المفرطة المعتمدة فإن الوقوف أمام الجدار الروسي يقتضي المحاولة عبر الجدار الأميركي لعل هذا الأخير مهيأ لتقديم المزيد من المكاسب، ولذا فإن اتفاق منبج يعتبر مؤشراً يحمل بين طياته أدلة دافعة على أن كل ما جرى في خلال الأعوام الثلاث السابقة على الطريق الموصل بين أنقرة وواشنطن لم يكن أكثر من «جكارة» سعى من خلالها كل طرف إلى إثبات أهميته للطرف الآخر، وفي السياق عمد الاثنان إلى تقطيع الوقت بانتظار مجيء لحظة التلاقي الكبرى.
من المؤكد أن هناك العديد من الإشارات الصغيرة والمتناثرة كانت قد سبقت هذه الأخيرة ومجموعها هو الذي دفع بصالح مسلم الرئيس السابق لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني إلى القول في التاسع من حزيران: «إن علاقاتنا تتغير مع الأميركيين وقد نتحالف مع الروس والحكومة السورية»، أما لحظة التلاقي فقد فرضتها الأرض التي يقف عليها كلا الطرفين فأنقرة تتخوف من قرار الانسحاب الأميركي من سورية وهي ترى أنه حاصل وفي أقرب وقت على الرغم من تصريحات العديد من المسؤولين الذين ربطوا انسحاب قوات بلادهم بشروط متعددة.
الأمر يبدو ضاغطاً على الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليس لأنه وعد انتخابي كان قد قدمه في خلال حملته الانتخابية عام 2016 لكن بسبب الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي التي ستجري في شهر تشرين ثاني المقبل، وفيها من المتوقع أن يخسر الجمهوريون أغلبيتهم التي أتاحت لترامب على امتداد ما يقرب من السنتين الإمساك بتلابيب كل القرارات والمراسيم الصادرة عن إدارته، وإذا ما كانت التقديرات تقول إن تلك القوات يلزمها لكي تنسحب 3-5 أشهر فنحن على موعد إذا مع صدور قرار أميركي يعلن سحب القوات الأميركية من الشرق السوري.
على غير ما يقرأ، فإن التصعيد الأميركي ضد الحكومة السورية فيما يخص إطلاقها لمعركة تحرير الجنوب السوري، يصب في الجعبة السابقة وهو يدعم الفرضية السابقة، على الرغم من أن التهديدات التي أطلقها العديد من المسؤولين الأميركيين مؤخراً يجب أن تؤخذ على محمل الجد لأن النار باتت قريبة من الحدود «الإسرائيلية» أي قريبة من العقل الأميركي، ولذا فإن احتمال حدوث تدخل أميركي في الجنوب يبقى أمراً وارداً، أما إذا لم يحصل تدخل كهذا فإن واشنطن تكون قد أقرت بهزيمة مشروعها في سورية.
لم يكن أمام دمشق سوى الذهاب إلى أقصى الجنوب لبسط سيطرة الدولة عليه على الرغم من العديد من التحديات التي تنتظر المعارك المقبلة هناك، وهي تستند في ذاك على موقف روسي داعم ومن المؤكد أن موسكو موافقة تماماً على تحرير مدينة درعا بدليل تحليق سلاح الجو السوري فوق سمائها وهو ما يعتبر تحدياً للرباعي الضامن لمنطقة خفض التصعيد الرابعة في الجنوب في ظل التوازنات الإقليمية والدولية القائمة.
تموضع آخر فرضه اتفاق منبج أيضاً، وإن لم يكن هذا الأخير لوحده، فقد نحى الأكراد بجسدهم المثقل بالخيبات التي تأتت أغلبيتها بفعل قصور الرؤية السياسية أو البلاهة السياسية التي كانت تصور للقيادات الكردية على أنها تجلس في مقهى وعلى النادل الأميركي تلبية ما يطلبه الزبون دونما اعتراض، ومع ذلك فإن الصدمة الكردية الناجمة عن اتفاق منبج لم تمنع من ارتكاب الأخطاء الفادحة، فقد عمد الأكراد كردة فعل، على التقارب الأميركي التركي إلى الامتناع عن متابعة الحرب على العديد من جيوب داعش في ريف دير الزور، الأمر الذي استدعى استعانة واشنطن بقوات عراقية لاستهداف تلك الجيوب، وكأن الأكراد لا يدركون أن شرعية كيانهم المسمى «مجلس سورية الديمقراطي» وقواته أيضاً إنما تتوقف على الدور الذي أوكل إليهم في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية.
قرار التقارب مع الحكومة السورية إيجابي على الرغم من أن الظروف المحيطة هي التي حملت بالجسد الكردي لوضعه في هذا الموضع وإذا ما كان اضطراب الوجود الأميركي في الذروة منها فقد تراكمت إلى جانبه العديد من العوامل الأخرى مثل تهديدات دمشق، وبروز العديد من الفصائل المسلحة المحلية التي أعلن عنها في «دير حافر» وهي بنيوياً تتعارض مع البنى والهياكل السياسية والعسكرية التي أقامها الأكراد، على حين الخطوات المطلوبة الآن تتمثل في إبعاد كل الأحزاب والقوى ذات الميول الانفصالية في أي مفاوضات مستقبلية مع دمشق، ثم تمزيق خرائط «روج آفا» والإعلان عن كارثية ذلك الخيار أمام جماهيرها قبل أن يكون أمام أي أحد آخر، على أن يكتب ذلك كله في الأدبيات التي تعتمدها تلك الأحزاب، وعندها فقط يمكن المطالبة بحكم ذاتي يضمن للأكراد حقوقهم الثقافية وغيرها.