هؤلاء الأولاد هم مستقبل أميركا بقلم:  نهلة الشهال

هؤلاء الأولاد هم مستقبل أميركا بقلم: نهلة الشهال

تحليل وآراء

الاثنين، ٢ أبريل ٢٠١٨

لم يكن من المعقول أن تُطْبق على أميركا، كبعد وحيد، تلك الصورة البشعة لترامب وقبله بوش ومعهما السياسيون من الحزبَين اللذين يتناوبان على الحكم، وكل تلك المنظمات العنصرية أو العنفية أو البلهاء، والحروب وسائر الآفات اللصيقة بالبلاد داخلياً وفي العالم. الأمر، والحال هذه، كان سيبدو فظيعاً ومهدداً لفكرة التفاؤل بمستقبل الإنسان كوعد من دونه يصبح كل شيء عبثياً وعدمياً بلا معنى.
وهكذا، وكأبناء لليوم ولـ2018، خرج هؤلاء الصبية والصبايا إلى الشارع، كانوا بالملايين يعلنون أنه «كفى» و«ليس مثل هذا بعد اليوم»، مدافعين عن حياتهم بالمعنى المباشر للكلمة، بوجه القتل المجاني المتكرر في مدارس البلاد بكل درجاتها، من الابتدائي وحتى «هاي سكول» والجامعات. ولكنهم لم يكتفوا بالإعلان عن حقهم في الحياة، بل تكلموا في السياسة: قالوا إن «NRA» (وهو الاختصار الشهير لـ «الجمعية الوطنية للسلاح») التي أسستها أصلاً شركات صناعته والاتجار به، تمول الحملات الانتخابية للرؤساء ولسائر السياسيين من كل المستويات وفي كل الولايات، ومن هؤلاء الرئيس ترامب نفسه، كاشفين مقدار المبالغ التي وُظّفت في حملته، وهددوا بأنهم سيبلغون السن القانونية للتصويت في الانتخابات المقبلة، وأنهم قوة المستقبل.
وهم احتلوا المنصات الخطابية وشاشات التلفزة في العالم كله التي تغزلت بهم: وقفت إيما غونزاليس ابنة السابعة عشرة صامتة لمدة ست دقائق وعشرين ثانية، فيما الدموع تنهمر من عينيها، وقالت إن ذلك هو بدقة الوقت الذي أحتاجه القاتل في ثانوية باركلاند في فلوريدا حيث تدرس لقتل 17 من رفاقها، وذكرت أسماءهم و «ما لن يصبحوه». ساد الصمت التظاهرة التي قدر عدد المشاركين فيها بـ850 ألفاً في واشنطن، فعنونت الصحف العالمية الكبرى ذلك بـ «قوة الصمت». وقالت «نيويوركر» بإعجاب واحترام: «روح المراهقين»، واعتبرتها «أكثر من ملهمة»، وذكّرتنا بأن «سياق الأحداث يبقى بين أيدينا» وأن «التعاطف خيار». ونشرت بورتريهات لهؤلاء الشباب المصممين على التخلص مما اعتبرته حالة راكدة أو «ستاتيكو»: في فلوريدا تلامذة أسسوا حركة «أبداً بعد اليوم»، بينما في كاليفورنيا يتحرك أيضاً أقرانهم ضد السياسة الحكومية حيال التغييرات المناخية، القاتلة هي الأخرى، وآخرون يطلقون مدرسة صيفية باسم «احتلوا» على غرار الحركة التي ولدت بعد كارثة 2008 الاقتصادية، بينما يترشح تحسين شودري وهو شاب صغير (17 سنة) وفي عامه الأخير في الثانوية، ومن منطقة كوين الشعبية المليئة بالملونين، وابن مهاجرين من الهند، كـ «تقدمي» إلى منصب مجلس شيوخ مقاطعة نيويورك، ويقول إنه لا يحق له التصويت ولكنه يطلب من الناس أن تصوِّت له.
وكان ظاهراً في التظاهرة، وفي أصحاب الكلمات التي ألقيت فيها، التنوع العرقي والاجتماعي وكذلك مشاركة مختلف الولايات، حيث قالت ابنة الـ11 عاماً من فرجينيا، أنها تتكلم من أجل «الفتيات الأفرو أميركيات اللواتي لا تحتل قصصهن واجهة الصحف ولا نشرات الأخبار المسائية»، مستشهدة بنص للكاتبة العملاقة، الأفرو أميركية، توني موريسون! أما إدنا شافيز ابنة السابعة عشرة فتعرِّفها الصحف كـ «قائدة طالبية» جاءت من جنوب لوس أنجليس، وتخللت خطابها جمل بالإسبانية. قالت إنها جاءت لتكشف «عادية العنف» التي تُفترض في مجتمعات الأقليات، ووصفت كيف فقدت أخاها في إطلاق نار. وتوالى على الكلام شبان وشابات فقدوا إخوتهم في أحداث مماثلة، فاستحضروهم، ورووا ما كانوا يحلمون بأن يصبحوا، ولن…
جرت 800 تظاهرة في أنحاء مختلفة من الولايات المتحدة، كانت مسيرة واشنطن قبل أيام خاتمتها، كما سارت تظاهرات تضامنية في لندن وأدنبره وجنيف وسيدني وطوكيو… وشارك مشاهير مثل أندرا داي التي غنت في مسيرة واشنطن، وبول ماكارتني من فرقة البيتلز في مسيرة نيويورك، الذي أشار إلى خسارته «واحداً من أعز أصدقائه في حادث إطلاق نار مماثل»، وهو يقصد زميله في الفرقة جون لينون.
وشارك في تمويل المسيرة بكل تفاصيل ما قدمته من منصات وعروض على الشاشات للقطات الفيديو وتوفير مكبرات الصوت، ثم الحفلة المسائية الخ… متبرعون كسلسلة مطاعم «شيك شاك» أو فريق كرة القدم الشهير من ولاية بوسطن «نيو إنغلاند باتريوت» الذي استأجر طائرات عدة لنقل التلامذة… كما تجند أهالي هؤلاء لخدمتهم، بنقلهم بسياراتهم أو بمرافقتهم في القطارات والباصات، وفي توفير «السناك» والماء لهم خلال المسيرة، معتبرين أن عليهم إفساح المجال لأبنائهم والاكتفاء بالإسناد.
وقد خصصت عدة صحف أوروبية ريبورتاجات مصورة للقطات من تظاهرة واشنطن خصوصاً، كانت في غاية الجمال و «التعاطف»، وأبرزت من بين عشرات المساهمات خطاب يولاندا رينيه كينغ، حفيدة مارتن لوثر كينغ، وهي صبية في التاسعة، قالت مستعيدة جملة جدها الشهيرة: «لدي حلم» بأن «هذا يكفي، وبأن عالمنا يجب أن يكون خالياً من السلاح»، ونادت أبناء جيلها أن يكونوا «جيلاً عظيماً»، محورة كلام ترامب عن «جعل أميركا عظيمة مجدداً».
… هؤلاء المراهقون الذين ولدوا بعد 1999، يشبهون أقرانهم حينذاك، آباءهم وأجدادهم الذين تحركوا في ستينات القرن الماضي ضد حرب فيتنام، ومن أجل حقوق أخرى كحرية التعبير والحقوق المدنية، التي تقول عنها صحيفة «نيويوركر» أنها «دفعت قدماً بالمجتمع إلى الأمام». وهم يشبهون ملايين الأميركيين الذي ناهضوا الحرب على العراق، ولم يبتلعوا خزعبلات قادة بلادهم ولا تماهوا مع صورة البطل الأميركي «محرر الأمم».
مقابل ذلك كله، قررت الإدارة الأميركية اتخاذ سلسلة من الإجراءات لما أسمته «معالجة العنف المسلح»، خصصت لها 50 مليون دولار، ومنها مزيد من التدقيق في خلفيات مشتري الأسلحة، ومنع بيع الأسلحة نصف الآلية المطورة، وتعزيز الاحتياطات الأمنية حول المدارس، و- وهو الإجراء «الأطرف»!- تدريب الطلاب والمعلمين على السلاح! وهذا بعدما أشاد بيان البيت الأبيض بـ «الشباب الأميركي الشجاع الذي يمارس حقه في حمل السلاح المنصوص عليه في الدستور». وهو ما يمكن اعتباره «حوار طرشان». إلا أن ذلك لا يتأتى فعلاً عن سوء تفاهم، بل هو صراع ضد كتلة مصالح بنيت عليها تصورات وأحيطت بأيديولوجية وسردية متكاملتين عن «هوية» أميركا وشخصيتها.
هذا علماً أن جمعية NRA تلك، كواحدة من أبرز واجهات قوى هذه النظرية ومصالحها، أنفقت في ما تسميه «حفلات» في دورة 2016 الانتخابية، ما تُقر بأنه 50.2 مليون دولار، فدعمت 6 مرشحين جمهوريين في ولايات مختلفة، وبالطبع الرئيس الفائز!