في فلسطين .. السطو على التاريخ سبق السطو على الجغرافيا.. بقلم: محمد إسماعيل حديد

في فلسطين .. السطو على التاريخ سبق السطو على الجغرافيا.. بقلم: محمد إسماعيل حديد

تحليل وآراء

الخميس، ٨ مارس ٢٠١٨

لعب المستشرقون التوراتيون لعبتهم حين فصلوا تاريخ فلسطين القديم عن تاريخ سورية، وكتموا صوت التاريخ الفلسطيني كيلا يفضح الزيف الذي صنعه المستشرقون المنحازون، حين جعلوا تاريخ فلسطين القديم يحاكي ما ورد في أسفار التوراة اليهودية.
إن التاريخ حسبما أراده المستشرقون التوراتيون لفلسطين، يبدأ بقدوم النبي إبراهيم الخليل من جنوب العراق إليها حوالي عام 1800 ق.م، وبسبب المجاعة التي حلت بفلسطين اضطر النبي إبراهيم لمغادرتها متوجهاً إلى مصر حيث أعجب فرعونها بجمال سارة زوجة إبراهيم فأهداها جارية اسمها هاجر ثم عاد الجميع إلى فلسطين.
طلبت سارة من النبي إبراهيم أن يتزوج هاجر علها تلد ولداً يكون لهما أنساً وسنداً، فتزوج إبراهيم الجارية وأنجبت له ولداً أسموه إسماعيل، وعند بلوغه الثالثة عشر من العمر رزق إبراهيم بمولود آخر من زوجته سارة التي كانت تبلغ من العمر ثمانين عاماً، أسموه إسحق.
تحت إلحاح سارة على ضرورة طرد الجارية هاجر وابنها إسماعيل، حملهما إبراهيم إلى مكان بعيد وتركهما هناك لقدرهما، لكن بسبب وجود بئر للماء في المكان، بني المكان بالرعاة، ولم تعد هاجر وحيدة في ذلك الوادي الموحش. فكبر إسماعيل وتزوج من العماليق، ثم طلقها وتزوج من جرهم حيث رزق باثني عشر سبطاً.
أما إسحق فكبر وتزوج ابنة عمه رفقة التي أنجبت له توأمين عيسو ويعقوب، وطغت شهرة يعقوب على عيسو لأن يعقوب عمل بنصيحة أبيه اسحق بألا يتزوج من بنات كنعان، فذهب إلى خاله في العراق وخطب إحدى بنتيه، وبعد غياب عشرين سنة عن فلسطين عاد إليها يعقوب ومعه زوجاته الأربع وأبناءه الأحد عشر، وفي طريق العودة إلى مدينة الخليل ولدت زوجته راحيل سبط إسرائيل الثاني عشر قرب بيت لحم وسمي بنيامين، وهو شقيق ليوسف من أمه.
عندما بلغ يوسف ثلاثة عشر عاما تآمر عليه أخوته وألقوه في البئر وقالوا لأبيهم يعقوب أن ذئباً أكله، لكن يوسف ظل في البئر حتى أتت قافلة تقصد مصر، فاكتشفوا وجود يوسف وأخذوه معهم إلى مصر وباعوه للعزيز، ثم أصبح يوسف فيما بعد وزيراً للتموين بسبب تفسيره حلم الملك حول السبع بقرات والسبع سنابل، فاستدعى يوسف أباه يعقوب وكل ذريته من فلسطين إلى مصر وكان عددهم 70 نفساً.
عاش بنو إسرائيل في مصر بسلام حتى توفي يوسف وجاء فرعون جديد لم يسمح لأخوة يوسف بالبقاء في قصره، فأسكنهم في بيوت وضيعة وفرض عليهم نظام السخرة وكلفهم بصناعة الطوب، وظل بنو إسرائيل على هذه الحالة مدة 430 عاماً حتى ولادة النبي موسى الذي ألقته أمه في النهر بعد أن وضعته في صندوق خشبي، فعثرت عليه ابنة الفرعون فاتخذه فرعون ولداً.
كبر موسى وترعرع في قصر الفرعون، ثم هرب إلى مدين خوفاً من العقاب بعد أن ضرب أحد المصريين فقتله، وتزوج موسى في مدين وبعد وفاة الفرعون الذي كان يطلبه ومجيء فرعون جديد غادر موسى مدين عائداً إلى مصر، وفي الطريق نزلت عليه الرسالة وكلفه الرب بالدعوة لها، وطلب منه الذهاب إلى فرعون ودعوته للإيمان بالإله الواحد.
لم يستجب فرعون لطلب موسى الذي جمع كل بني إسرائيل وهرب بهم إلى سيناء. فتاهوا فيها أربعين سنة حتى إذا وصلوا على مقربة من مدينة أريحا الفلسطينية، مات موسى هناك، واستلم القيادة من بعده يوشع بن نون الذي فتح أريحا وأستباح كل حي فيها بحد السيف.
حكم بني إسرائيل لمدة خمسين عاماً مجلس من القضاة ولم يكن لهم ملك، ثم رشح النبي صموئيل ملكاً عليهم يدعى شاؤول الذي زوج ابنته لراعي الغنم الشجاع داوود بعد أن تمكن من قتل القائد الفلسطيني جوليات الذي يبلغ طوله 9 أقدام (270 سم) بواسطة حجر أرسله من مقلاعه.
وفي إحدى معاركه مع الفلسطينيين، قُتل الملك شاؤول أول ملوك بني إسرائيل فأصبح النبي داوود الملك الثاني، كونه صهر الملك القتيل الذي لم يرزق أولاداً. وأسس الملك داوود مملكة “نموذجية” يسودها “الاستقرار” (طارده ولده العاق “إبشالوم” يريد قتله، وقضى داوود ردحاً من عمره يتنقل من جبل إلى جبل ومن صير غنم إلى صير غنم). وتجسد “العدالة” (قتل الملك داوود أحد قادته العسكريين “أوريا الحثي” كي يتزوج أمرأته الجميلة بتشابع). وأشاد النبي داوود “حضارة” لم يشهدها بنو إسرائيل من قبل (كان الملك المتحضر يسكن أحد كهوف القدس ولم يبنِ ولو صير غنم. وما سمي برج داوود في القدس هو بناء هلنستي شيده الإغريق عندما احتلوا فلسطين). وكان “متفرغاً” لشؤون الحكم (حيث لم يكن له من النساء سوى 100 زوجة). و“حافظ” على الشريعة (رغم أنه أضاع التوراة الحقيقية وعصا موسى وردائه). وكان “شجاعاً” لدرجة أنه عندما ضايقه أبشالوم وكاد أن يلقي القبض عليه، لجأ داوود الشجاع إلى أعدائه الفلسطينيين وهو حافي القدمين ويبكي من الجزع، فأكرم الفلسطينيون وفادته. هذا كله حسب التوراة البابلية.
وعندما توفي داوود صعد ولده النبي سليمان إلى منصة الحكم. والنبي سليمان كان مُهاب الجانب أكثر من أبيه فقد تزوج 999 زوجة أكملهن إلى 1000 عندما تزوج بلقيس ملكة سبأ حسب القصة الشهيرة. كما أقام هيكلاً في القدس يبلغ طوله (60 ذراعاً أي 36 متراً بمقاييس العصر)، و (20 ذراعاً أي 12 متراً) للعرض، و (30 ذراعاً أي 18 متراً) للارتفاع. وهذا البناء يعادل في عصرنا مساحة فندق متوسط الحجم بارتفاع 6 طبقات.
قام بإنجاز هذا البناء 30 ألف رجل يقطعون الخشب من شجر الأرز في لبنان، و70 ألفاً من الحمالين، و80 ألفاً يقطعون الحجارة من الجبال، و3300 مشرف ومهندس ورجل كهانة. هذا عدا آلاف مؤلفة من العمال والطهاة والخبازين والسقاة والأطباء وأمناء المستودعات وسائقي عربات نقل المواد التموينية، وقد استمر البناء بهذا الحشد لمدة سبع سنوات دون توقف.
كما كوَّن سليمان مملكة قوية متماسكة، يضرب بها المثل إلى اليوم، بدليل أنها بعد موته تقاسمها ولداه “رحبعام” و “يربعام” وقسَّماها إلى مملكة في الشمال (شمال الضفة الغربية) اسمها “مملكة إسرائيل” وعاصمتها السامرة، ومملكة في الجنوب اسمها “مملكة يهوذا” وعاصمتها “أورشليم”. وقد شهدت المملكتان حروباً طاحنة بينهما لاختلافهما على حدود مملكتيهما.
ظل الأمر كذلك حتى عام 697 ق.م حين هاجم سنحاريب ملك آشور المملكة الشمالية بسبب مساندتها للمصريين، فحطم معابدها وسبى أهلها إلى آشور وانتهت مملكة “إسرائيل” من الوجود. وفي عام 586 ق.م هاجم نبوخذ نصر مملكة الجنوب “يهوذا” بسبب رفضهم دفع الجزية فدمر هيكلها وسبى سكانها إلى بابل لينتهي أي وضع سياسي لليهود في فلسطين.
بعد تآمر اليهود في بابل مع ملك الفرس احتل قورش الكبير بابل مع كل ما يتبع لها من بلاد. وكافأ قورش اليهود بإعادتهم إلى فلسطين بعد 70 عاماً من السبي. لكن عزرا الكاهن ظل في بابل وهناك نزلت عليه نسخة من التوراة “بدل ضائع” بعد 800 عام من موت موسى. دوَّنها في خمسة أسفار هي التكوين والخروج اللاويين العدد التثنية. ثم أضاف لها المتأخرون أسفاراً جديدة حتى بلغ عدد أسفار التوراة 49 سفراً.
في عام 332 ق.م احتل الاسكندر المقدوني آسيا الصغرى وسورية ولبنان وفلسطين ومصر، ثم اتجه شرقاً فاحتل بلاد فارس، وعندما حاول التوغل أكثر باتجاه الشرق رفض قادة جيشه الانصياع لأمره. وخلال رحلة بحرية حول الجزيرة العربية توفي الاسكندر عن عمر يناهز 33 عاماً. وبموته تقاسم قادته البلدان المحتلة، ونشب صراع شديد بين البطالسة في مصر والسلوقيين في بلاد الشام.
في عام 175 ق.م قرر الملك السلوقي انطوخيوس الرابع أن يفرض الثقافة اليونانية (الوثنية) على سكان البلاد المستعمرة، فتعارض ذلك مع ثقافة اليهود التوحيدية ما اضطرهم للثورة على الملك انطوخيوس عام 165 ق.م فيما عُرف بثورة المكابيين. وعندما شعر المكابيون بوطأة الجيش السلوقي القادم لإخماد ثورتهم احتموا بروما العدو الأكبر للسلوقين، وانتهت ثورة المكابيين بعد احتلال روما لفلسطين عام 63 ق.م
أعطى الرومان حاخامات اليهود – باعتبارهم حلفاء الأمس – بعض الصلاحيات الدينية والقضائية على اليهود. وفي عام 37 بعد الميلاد وشى أحد اليهود بالسيد المسيح عليه السلام للحاكم الروماني واعتبره اليهود كافراً ومرتداً عن الملة، فحكم عليه بالموت صلباً. لكن اليهود لم يقنعوا بما أعطي لهم من صلاحيات فقاموا بثورة ضد الرومان أعقبها عصيان في القدس. وهذا ما دفع الإمبراطور الروماني تيطوس عام 70 ميلادية لاقتحام القدس وتدمير الهيكل اليهودي، ونقل اليهود إلى روما ليباعوا هناك عبيداً. وكان هذا آخر عهد اليهود بفلسطين حتى عام 1948.
هنا ينتهي التاريخ القديم لفلسطين حسبما أورده المستشرقون التوراتيون، تاريخٌ يهوديٌ بامتياز، شطب تاريخ الأقوام العربية التي كانت تعيش في فلسطين منذ القدم، وتجاهَلَ ملوكَها وحضارتها وأدبها وتراثها وطقوسها وشرائعها ونشاطها السياسي والزراعي والتجاري، وما إلى ذلك خلال الفترة التي سبقت مجيء النبي إبراهيم لفلسطين وأثناءها وما بعدها.
لكن نفراً من المؤرخين والباحثين في مجال الآثار وعلم التأريخ من أصحاب الضمائر الحية، أبوا أن يكونوا أدوات تضليل أو أن يوافقوا على التزوير التاريخي الذي أقدم عليه مستشرقون لا هدف لهم إلا إثبات صحة ما جاء في توراة بابل ولو على حساب الأمانة العلمية.
وحسبنا في هذا المجال الضيق أن ندعم أقوالنا بشهادات جزء يسير مما قاله الكثيرون من علماء الآثار المحايدين وغير المحايدين، ومن بين هؤلاء علماء آثاريين “إسرائيليين” وضعوا اليهود في المكانة التي يستحقونها، ونفوا المزاعم عن قيام مملكة داوود وسليمان الأسطوريتين في القدس أو أي مكان في فلسطين.
يقول البروفسور اليهودي “شلومو ساند”: “إن الشعب اليهودي آت من الكتاب المقدس، بمعنى انه شيء خيالي تم اختراعه بمفعول رجعي”، ويضيف: “إن احتمال أن يكون الفلسطيني قاذف الحجارة حفيداً لداوود، هو أكثر بكثير من احتمال كوني أنا حفيداً له” . وقال المؤرخ اليهودي البروفسور زئيف هرتسوغ: “إن مملكة داوود وسليمان المتحدة، التي تظهرها التوراة كقوة إقليمية عظمى في زمنها، لم تكن في الواقع أكثر من مجرد مملكة قبائلية صغيرة” . ويضيف هرتسوغ: “إن جميع الروايات التوراتية وحروب بني إسرائيل بقيادة يشوع بن نون لا تستند إلى أي واقع حقيقي، إنما يمكن الجزم بصورة قاطعة أن القدس لم تكن إطلاقا عاصمة مملكة كبيرة كما تذكر المزاعم التوراتية”. ويقول اليهودي “الإسرائيلي”، إسرائيل فنكلنشتاين، وهو عالم آثار بجامعة تل أبيب: “هؤلاء الناس (من يقومون بالحفريات في القدس) يحاولون خلط الدين بالعلم”. ويقول اليهودي الأمريكي “نيل سيلبرمان” مؤلف كتاب “التوراة مكشوفة على حقيقتها”: “إن الأدلة الحاسمة للحفريات والتنقيبات الأثرية في كل من فلسطين ومصر والأردن ولبنان، تفيد أن داوود وسليمان كانا أقرب إلى رئيسي عشيرة منهما إلى ملكين بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولم يقوما بأي من الأعمال العظيمة المروية في التوراة العبرية”، ويضيف: “إن فلسطين كانت – وظلت دائماً – مسكونة من عدة شعوب تتالوا عليها، أو تجاوروا فيها، كاليبوسيين والكنعانيين والفلستينيين والفينيقيين والعماليق، وإن “الإسرائيليين” لم يكونوا إلا مجموعة هامشية فوضوية، نمت وسيطرت لفترة قصيرة على منطقة محدودة من المرتفعات والتلال المركزية في فلسطين، ولا صحة لتلك الفتوحات الإقليمية والتوسعية المنسوبة لداوود وسليمان، ولا لبناء ذلك الهيكل الكبير المزعوم”.
ويقول عالم الآثار الاسباني فرانز لوبر: “إن الظروف التي كانت قائمة في فلسطين القديمة لم تكن ملائمة لتطور مملكة كبيرة ولا لنشوء أية انجازات كبرى كالأهرامات المصرية أو قصور بلاد ما بين النهرين”. لأن فلسطين كانت تقع بين مملكتين عظيمتين متصارعتين هما المملكة الفرعونية والمملكة البابلية. وكانت فلسطين ممراً للواحدة تجاه الأخرى، فتارة تكون تابعة لفراعنة مصر، وتارة تابعة لملوك بابل.
أما جامعة “ويلهاوزن” الألمانية فقد أعلنت بطلان الصفة التاريخية للتوراة لأن “نصوصها قد أعيدت كتابتها بكثير من التحريف والتزوير، بل وبكثير من الاختلاق أيضا، وخصوصا خلال مرحلة النفي إلى بابل”.
بعد كل تلك الشهادات من علماء الآثار الذين ينتمون لجنسيات مختلفة، مع وجود كم هائل من الشهادات المشابهة الأخرى، والتي يضيق بها المجال، جعلت الشهادات إصرار اليهود الصهاينة وأنصارهم على إنكار حقائق التاريخ، ضرباً من المكابرة التي لا تتفق مع المنطق السليم، أو مخرجات الفكر السوي. لكن التجارب أثبتت أن كل أشكال الطمس والتضليل والتزوير ستتهاوى أمام وهج الحقيقة التي ستفرض نفسها عنوة، رغم كل الأفاكين والمغرضين.
إن احتلال الجغرافيا الفلسطينية من قبل الصهاينة، سبقه احتلال من نوع مختلف، تجسد في احتلال التاريخ الفلسطيني. وهذا يضع أصحاب الفكر والعلم والقلم في أمتنا العربية المجيدة أمام مسؤولية تاريخية، تبدأ بمعركة تحرير التاريخ الفلسطيني من الاحتلال. وإخراجه من القمقم المظلم الذي وضع فيه، لتأتي بعد ذلك معركة تحرير الجغرافيا، مشفوعة بحق تاريخي راسخ، بعد أن يكون قد فرض نفسه على العالم، لا يُضعف من قوته زعم باطل، ولا تسقطه أراجيف وأكاذيب مضللة.