تحية إلى روح «بارين كوباني».. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحية إلى روح «بارين كوباني».. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الخميس، ٨ فبراير ٢٠١٨

تقول المعلومات: إن اسم بارين يعني باللغة الكردية الـ«عويل» في حين أن الكنية هنا منسوبة إلى بلدة كوباني أو عين العرب، وأهمية الأمر هو أن هذا الاسم هو اسم حركي بمعنى أنه مختار وليس مفروضا كما جرت العادة، واللافت هو أن أهلها قد رفضوا حتى الآن الإفصاح عن اسمها الحقيقي، وربما يمكن اعتبار تلك الاختيارية انعكاسا يختصر عذابات الأكراد الذين لم يعرفوا سوى الصراخ والعويل على مر تاريخهم، لكن من دون أدنى شك فإن قياداتهم تعتبر المسؤول الأول عن تلك الحالة، لأن خطأ الحسابات كان في الأغلب يزج بشرائح واسعة من الأكراد تحت مسميات «طوشه» أو «ثورة»، وفي المجمل كانت كلها حروب تطحن في أتونها الآلاف، وتشهد تشريد عشرات الآلاف إن لم يكن مئات الآلاف، وتلك بالتأكيد تقع مسؤوليتها على عاتق القيادات بالدرجة الأولى إذ لطالما لم يكن لزاما على الشارع الكردي، شأنه في ذلك شأن أي شارع آخر، أن يدرك كل التفاصيل أو مجمل الحسابات التي يمضي في حراكه المنشود في ظلها، ولا بد هنا من القول: إن الصفة الغالبة التي اتسمت بها تلك القيادات هي روح المغامرة أو تغليب مصالحها الفردية على المصلحة الكردية الجمعية.
لم يبخل الأكراد يوما في دمائهم كلما أشيعت مناخات الحروب من أجل الدفاع عن الهوية الكردية، إلا أن ذلك «الكرم» كان قد جرى استغلاله لتحقيق مصالح فردية أو فئوية أو عشائرية أو لتثبيت مواقع سلطوية، ومن المعروف أن أياً من عروش تلك القيادات لم تقم إلا على تلال الجماجم وأنهار الدماء.
نحن هنا لسنا في معرض تقييم التجربة الكردية الطويلة والمريرة، لكننا نسعى إلى تلمس الجرح الكردي في سورية والذي بدء بالتعمق منذ أن اهتدت سفنه بالمنارة الأميركية الخادعة منتصف عام 2015 فصاعدا، والمحطات التي يمكن رصدها منذ ذلك الحين عديدة وجميعها ذات دلالات أو مؤشرات مهمة، إلا أن ذلك المسار كان قد شهد منذ حين وتحديدا منذ الشهر الأخير في العام المنصرم تحولا نوعيا بات يهدد الوجود والكيان الكردي برمته، فإن ينحو الأكراد بأنفسهم في مسار مستقل عن مصير شعوب المنطقة، ومهما تكن دواعيه أو ظروفه، فذاك أمر لا تحتمله الذات الكردية التي تعاني التشتت وتخوض كل يوم معركة شرسة للدفاع عن هويتها، وربما ظهرت حال التململ التي تعيشها تلك الذات مؤخراً عبر العملية الاستشهادية التي نفذتها «افستا خابور» يوم 27 من الشهر المنصرم، فالتضحية في سبيل الوطن أمر تقدسه كل الشرائع والأديان ومنظومات القيم والأخلاق لكل شعوب الأرض، إلا أن حالة نكران الذات التي تتطلبها عمليات كهذه تخفي وراءها أشياء أخرى، فهي من جهة تشكو من دفعها بذاك الاتجاه الذي لا ترى فيه من سبيل أمامها إلا عبر حالة تلاشي الجسد تعبيراً عن رفض الواقع الذي تعيشه، ومن جهة أخرى تهدد إذا ما تنامت، تلك الحالة، إلى بروز عقدة هي أشبه بعقدة «الماسادا» اليهودية التي تقول بالانتحار الجماعي، وفي مطلق الأحوال فإن كلتا الحالتين مرضية ولا تحل صراعاً أو تقيم أوطاناً.
من المؤكد أن الأكراد، قد أفضت مجموعة من الأحداث والظروف بهم إلى تضخيم ذاتهم الجماعية تحديداً بعد معركة كوباني 2014، فكان تصوير «القوة الكردية» على أنها قوة «سوبر»، أمر يخدم المصالح الأميركية فحسب، في حين وقع ذلك التصوير كان سلبيا على الداخل الكردي، مما يمكن أن يتكشف في أتون معركة عفرين والنتائج التي يمكن أن تفضي إليها، وربما كان من المهم والايجابي إعادة تقييم ذلك المسار بدءا من كوباني إلى اليوم، وفيه لا بد من الاعتراف أن الأكراد كانوا فيه قوة برية لعملاق جوي هو الولايات المتحدة، ولو كانت هناك أي قوة أخرى بديلة، لكانت النتائج المستحصلة هي نفسها، وهذا الكلام ليس للتقليل من الشأن الكردي، إلا أنه توصيف لا بديل منه للحكم على مرحلة ما عصيبة، وهي ما انفكت تمضي في حرجها الذي يزداد بتراكم الأخطاء، وربما كانت الحالة المعاكسة لتلك الحالة السابقة هي السبب الأهم في الوصول إلى ما يشهده الشمال السوري اليوم، فإن ينجر فصيل ما وراء أي قوة خارجية أياً تكن تلك القوة بشكل أعمى دون التوقف عند أبسط المسلمات التي تفرضها الجغرافيا السياسية، فذاك أمر لا تحتمله الحقائق الراسخة في المنطقة، ولا سياق الأحداث التي تشهدها هذه الأخيرة، ولم يكن عاديا أن يعمد الأكراد إلى تجاهل التهديدات التركية بـ«وأد» تلك القوة المراد تأسيسها وفق التعبير الذي استخدمه الرئيس التركي نفسه.
تشهد الشعوب العديد من انتكاساتها التي يمكن أن تمر بها انطلاقا من سوء تقدير قياداتها، وبمعنى آخر اندفاع هذه الأخيرة نحو أهداف تصل حظوظها في التحقق إلى درجة الصفر، وذاك أمر مرده إلى سوء تقدير اللحظة التاريخية عشية اتخاذ القرار، وربما كانت هذه الأخيرة على الدرجة نفسها من الأهمية التي تتمتع بها الظروف الموضوعية المحيطة بذلك القرار، يقول زعيم البلاشفة السوفييت ومؤسس الاتحاد السوفييتي السابق فلاديمير لينين: «لو قامت الثورة في 16 أو 18 منه لفشلت» وهو قول يوضح أهمية اللحظة في اتخاذ القرار، فنجاح الثورة كان مرتبطا إلى حد بعيد بقيامها يوم 17 وفق الرؤية التي يسوقها الزعيم الماركسي.
الآن سبق السيف العذل، ومن المتوقع أن تحقق العملية العسكرية التركية أهدافها المعلنة مهما تكن باهظة التكاليف، ما دام الدفع لا يتم من «الجيب» التركي، والرابح الوحيد فيها هو أنقرة التي سيكون مكسبها الأهم هو الحالة التي أدت للوصول بالسوريين إلى تلك الفظاعة التي وثقها شريط التمثيل بجثة «بارين كوباني»، التي لا يسعنا إلا أن نرفع لروحها الطاهرة أسمى آيات «السورنة».