«المتوسط» جروف من الدم... وأحزمة من نار .. بقلم: سومر صالح

«المتوسط» جروف من الدم... وأحزمة من نار .. بقلم: سومر صالح

تحليل وآراء

الأحد، ٢٨ يناير ٢٠١٨

لسنا في لحظات تاريخية عادية، ولسنا أمام نمط من الصراعات التقليدية، نحن في لحظة تشكل جديد في النظام الدولي، وخطر الصدام بين القوى الراغبة بالتغيير وبين الطرف المسيطر بات وشيكاً، ولكن شكل الصدام ما زال غير واضح، وعليه لا يمكن قراءة أيّ نزاع متعدّد الأطراف إلا بمنظور جيوبولتيكي، بما فيها الأزمة السورية، البعض قد يعترض على توصيفها بصراع جيوبولتيكي، والبعض الآخر قد يعترض على الجيوبولتيك نفسه باعتباره علماً قد ضعف منذ نشوء التكتلات العابرة للقومية وللجغرافيا المركزية، ولكن، هل اندثر الجيوبولتيك حقاً؟ وهل فقدت الجغرافيا أهمّيتها في رسم شبكة التحالفات الدولية؟ لندقق: في صيف 1989، نشرت مجلة «ناشيونال إنترست» مقالاً بعنوان نهاية التاريخ؟ للكاتب السياسي فرنسيس فوكوياما، وكانت أطْروحته الأساسية أنّ الديمقراطية الليبرالية ومبادئ اللبرلة الاقتصادية، تشكل نهاية الايديولوجيات وستكون النمط الغالب للأنظمة حول العالم، وفي عام 1993، ردّ صموئيل هنتغنتون على تلميذه فوكوياما بكتابته مقالة بعنوان «صدام الحضارات»، وجادل بأنّ صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية، بل ستكون الاختلافات الثقافية المحرك الرئيسي للنزاعات، وفي الحالتين شكلت مدرسة هنتغنتون وتلميذه فوكوياما انعكاساً لروح الانتصار في المواجهة السوفياتية الأميركية، وانتهاء الصراع الجيبولتيكي التقليدي، لصالح استمرار المفهوم الأميركي عن الجيوبولتيك والذي سمّي بجيوبولتيك البترول، وتعززت اتجاهات انتهاء الجيوبولتيك التقليدي بظهور التفكير المعولم الملغي للحدود فالدول الصناعية لم تركز على مسألة التوسع الإقليمي ولكن ركزت على تحقيق المكانة الاقتصادية والتطوّر التكنولوجي، وهذا ما نجحت الدول الأوروبية في تحقيقه من خلال تأسيسها للاتحاد الأوروبي ذي المضامين الاقتصادية.

روسياً، شكلت حالة انهيار الاتحاد السوفياتي صدمةً لدى الجيوبولتيكيين الروس، وتعدّدت اتجاهاتهم لاحتوائها وإعادة إنتاج نظرتهم لروسيا الجديدة ومكانتها الدولية بين المدرسة الوطنية – الليبرالية التي تدعو إلى التكيّف مع الليبرالية الغربية، وهي تعكس واقع الانهزام، والاتجاه الثاني وهو المدرسة الجيو اقتصادية التي تتبنّى العقلانية الاقتصادية والتكامل مع الغرب والتشبيك مع القوى الأساسية في آسيا والذي تبناها الرئيس بوتين في فترة انتخاباته الأولى، وهي تعكس إرادة التكيّف، وبين الاتجاه الثالث وهو مدرسة حفظ التوازن الأوراسي بمعنى أن تقوم بدور الموازن الإقليمي عسكرياً، وهي تعكس إرادة النهوض، وبقي الاتجاه الجيو اقتصادي هو الغالب في النظرة الروسية لمكانتها الدولية إلى أن ظهرت أفكار الكسندر دوغين ونشوء المدرسة الأوراسية الجديدة، التي تجاوزت في كثير من حيثياتها نقاط الضعف والرؤية الجزئية للاتجاهات الجيوبولتكية الروسية، وتجاوزت فكرة الدولة الإمبراطورية الروسية لصالح التكتل الأوراسي الممتدّ، محدّداً الهدف الأسمى للأوراسيانية بمواجهة الهيمنة الأميركية والوصول إلى المياه الدافئة لتصبح الإمبراطورية الجيوبوليتيكية مكتفيةً ذاتياً، فطرح ما سماه «النظرية الرابعة» معلناً سقوط الليبرالية الغربية وكأنّ دوغين يردّ الدين إلى فوكوياما الذي أنهى التاريخ بسقوط الشيوعية، فتكون النظرية الرابعة بداية التاريخ الجديد، تاريخ التعدّدية القطبية التي تؤمن بعالم تعدّدي وأخلاقي، عالم ممكن، إذ استطاعت روسيا إنتاج أيديولوجية خاصة بها، وتجسّدت السيادة الجيوسياسية لقوى القارة الأوراسية قوى البر التي تشكلها كلّ من روسيا، الصين، إيران، الهند، ضدّ القوى الأطلسية، مشيراً إلى أهمية محور برلين موسكو لتقويض القوى البحرية واشنطن – لندن، أفكار دوغين تلك سرعان ما وجدت آذاناً صاغيةً لدى الرئيس بوتين، وهي التي أتت في لحظة استطاعت الجيوبولتيكيا الاقتصادية البوتينية أن تنهض بروسيا من صدمة الكارثة بانهيار الاتحاد السوفياتي وبدأت تستعيد توازنها الدولي، وأتت في لحظة بدأت الدول الصاعدة كالصين والهند والبرازيل تهدّد الأحادية القطبية، فتشابكت الرؤية الجيو اقتصادية البوتينية مع الرؤية الأوراسية الجديدة الدوغينية لتنتج العقل السياسي الروسي المعاصر، وذاتها تقريباً الدول القارية في رؤية دوغين هي دولة التعاون الاقتصادي بريكس في استراتيجية بوتين، ومع هذا التلاقح في الرؤيتين بدء عصر العودة إلى الصراع على الممرات البحرية والكتل القارية، أيّ العودة للتعريف التقليدي للجيوبوليتيك لإعادة إنتاج أوراسيا في مواجه الأطلسي الليبرالي.

لا يمكن لمشروع أوراسيا الدوغينية الذي بدأ مع استعادة القرم 2014 وضمان الوجود الدائم شرق المتوسط 2015 أن ينجح إلا بثلاث عوامل أساسية: الأول هو تأمين الأحزمة الأوراسية الثلاثة… الأول هو أوروبا الشرقية والبلقان والحزام العربي، والثاني هو التشبيك مع نواة القوة الأوراسية والمتمثلة بمنظومة معاهدة الأمن الجماعي، والحزام الثالث هو ضمان استقرار الفضاءات الاقتصادية الكبرى كشنغهاي والهند، ولتركيا الحصة الكبرى في المشروع الأوراسي فلها نفوذ واسع في وسط أسيا وجنوب القوقاز منظمة الشعوب التركية ولها حضور بارز في البلقان، إضافة لكونها رأس حربة الناتو في مواجهة روسيا، لذلك نجاح أوراسيا الجديدة يتطلب إما احتواء تركيا أو تحييدها، وهو ما عمل عليه الرئيس بوتين من خلال الاعتمادية الاقتصادية أيّ تشبيك الاقتصاد التركي مع الاقتصاد الروسي بما يمنع تركيا من مواجهة الأورسة، مستغلاً عاملين أساسيين: الأول هو فشل انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي وعليه يجد النظام التركي نفسه في مواجهة روسيا شريكه الاقتصادي في منظمة تعتبر من مخلفات الحرب الباردة، والعامل الثاني هو بزوغ العثمانية الجديدة كمشروع بديل للانضمام إلى الاتحاد الأوربي ويمتدّ من آسيا الوسطى إلى البلقان، هذا المشروع العثماني بالمفهوم الروسي لا يتعارض مع الفكرة الأوراسية القائمة على فرضية الشراكة والتكامل مع فضاءات قارية كبرى في المنطقة الأوراسية، ولكن شرط أن تكون قائمةً على مبدأ رفض الأمركة كنظام سياسي واقتصادي للعولمة.

المشروع النيو/ عثماني قائم لا جدال في ذلك، ولكن من الصعب ترجيح حاضنه الحيوي الأكبر، الأوراسية الجديدة أم الليبرالية الأطلسية القائمة، فروسيا التي تحتاج تركيا لضمان وجود مستقرّ في المياه الدافئة أبدت تفهّماً مبالغاً فيه لمصالح تركيا في سورية، لم تستطع التثبّت من التوجه التركي الاستراتيجي، فتركيا لم تحسم خيارها بعد، فمواجهتها مع مشروع كرد عفرين دون مواجهة ذات المشروع شرق الفرات يعني أنها لم تختر المواجهة مع الأطلسية الأميركية بانتظار حسم نتيجة المواجهة الاستراتيجية بين روسيا والأطلسي والتي بدأت بقصف حميميم وإقرار قانون ضمّ الدونباس بأوكرانيا، والمستمرّة في تفكيك بريكس وسحب الهند والبرازيل منها، وصولاً للمنازلة في البلطيق بحراً وجواً، بما يضعها أمام سيناريوين، الانضمام إلى الطرف الأقوى في هذه المواجهة، أو وضع مشروعها النيو/ عثماني كمشروع مستقلّ مستغلاً حاجة الكتلتين الأوراسية والأطلسية له، أمام هذه الرمادية في الموقف التركي ينبغي عدم تقديم أيّ أوراق لتركيا بالمجان أو بأثمان منخفضة وتكتيكية لأنّ المشروع التركي ينافس المشروع الأوراسي جيوبولتيكيا، بما يعني أنها قد تنقلب على المشروع الأوراسي، وهذا سينعكس ببالغ الضرر على حلفاء روسيا، ومنه الموقف الروسي بشأن العدوان التركي على عفرين، فالحاجة الروسية الماسة لتأمين الأحزمة الأوراسية والحزام البحري شرق المتوسط، ينبغي أن يكون محسوباً بدقة فانبعاث الجيوبولتيك من شرق المتوسط سيحوّل الجرف القاري الأوراسي إلى نقطة اصطدام جيوبولتكي ترسم حدودها بدماء أبناء هذه المنطقة ولعلها لعنة الجغرافيا، في لحظة تخلى الجيوبولتيك عن سكونه، وعاد الدم يرسم حدود التكتلات القارية الكبرى، وعادت الجغرافيا محدّد السياسات وبوصلتها، والولايات المتحدة قرّرت المواجهة الاستراتيجية مع النيو/ أوراسيا، عبر تفكيك فضاءاتها الاقتصادية أو ضرب استقرار أحزمتها الجيوبولتكية… وهنا نحن لا نحمل روسيا المسؤولية فرؤيتها السامية لعالم متعدّد الأقطاب وأخلاقي، تتقاطع مع طموحات أغلب الشعوب النامية، ولكن بدأت تصطدم برؤية الدم وآلة التدمير الأميركية لتثبيت هيمنتها على العالم، وهو أمر يتطلب حسماً سريعاً للعلاقة الروسية مع تركيا أو إيجاد مقاربات أخرى، فتركيا أذاقت محيطها بكامله مرارة الألم والصراع والإرهاب بدءاً من سورية والعراق وأرمينيا… دون أن ننسى أنّ عثمانية اردوغان/ أوغلو كانت رأس الحربة الأطلسية لضرب الأوراسية التقليدية، فعلى ماذا تراهن موسكو من جديد…؟