بوتين والانتصار الأوراسي... عودة التعددية القطبية وانهيار نظام القطب الواحد .. بقلم أحمد خضور

بوتين والانتصار الأوراسي... عودة التعددية القطبية وانهيار نظام القطب الواحد .. بقلم أحمد خضور

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٣ يناير ٢٠١٨

يرى الكثير من الباحثين والخبراء أن النظام العالمي يتحول من نظام أحادي القطبية الذي تحكمه الولايات المتحدة (القطب الأطلسي) اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، إلى التعددية القطبية، حيث ظهرت قوى عالمية فاعلة ومؤثرة مثل روسيا والصين، ويمكن أن نقول هنا العودة الروسية.
 
انتقل النظام الدولي إلى مرحلة "الأحادية القطبية" بنهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، حيث تولى القطب الأطلسي الغربي بقيادة الولايات المتحدة القيادة الاقتصادية للعالم، وحاول الهيمنة في المجال السياسي، وهذا القطب في علم الجيوبوليتيكا يمثل الإمبراطورية "البحرية" الأطلسية (التالاسوكراتيا) وفقا للكاتب والفيلسوف الاستراتيجي الروسي ألكسندر دوغين، أو ما يسمى "العالم الانجلو ساكسوني، "الحضارة التجارية"، في مواجهة القوة الأوراسية "التيلوروكراتيا" (heartland)، أو ما يعرف بقوى اليابسة "القارية"، حيث يمثل هذان القطبان الجيوبوليتيكيان الثنائية الكونية التاريخية للنظام العالمي.
روسيا التي تمثل مركز القوة الأوراسية، انشغلت في تسعينيات القرن الماضي في ترتيب بيتها الداخلي، فيما كانت الولايات المتحدة آخذة في التمدد بعد حرب الخليج الأولى وترسخ المزيد من سيطرتها العسكرية والاقتصادية والإعلامية في العالم، والتفرد بالقرارات الدولية، وبالرغم من انتهاء الحرب الباردة، إلا أن الأطلسي استمر في تهديد الأمن القومي الروسي، ومحاولة احتواء روسيا، والتقليل من قوة روسيا في أوروبا الشرقية والجنوبية، وتهديد استراتيجية الأمن الروسي من خلال تقويض الروابط للأشقاء السلاف، مثل أوكرانيا وبيلاروسيا وجورجيا وأرمينيا. ومحاولة الغرب (بقيادة الولايات المتحدة) التدخل في السياسة الأوكرانية، والاستمرار في محاصرة مناطق النفوذ الروسي.
 
في آذار عام 2000 استلم فلاديمير بوتين مقاليد الرئاسة في روسيا، وبدأ بإعادة هيكلة القوة الروسية، ليبدأ عصر جديد في التاريخ الروسي، اتسمت سنواته الأولى بترتيب أوراق البيت الداخلي الروسي وما رافق ذلك من صعوبات، ثم لينتقل في المرحلة الثانية إلى إعادة ألق القوة الروسية على الصعيد الدولي في سنوات لاحقة، وباعتبار روسيا هي مركز القطب الأوراسي، فبعودتها بدأت عملية إعادة التوازن للنظام الدولي تعود بشكل تدريجي.
 
وبعد الفشل الأمريكي في القضاء على الإرهاب من خلال غزو أفغانستان، شكلت الهزيمة الأمريكية في العراق على يد المقاومة العراقية التي أدت إلى انسحاب القوات الأمريكية من العراق في عام 2011، الخطوة الأولى في انهيار الأحادية القطبية، ترافق ذلك مع صعود نجم التنين الصيني على الصعيد الدولي اقتصاديا لتصبح مؤثرا ولاعبا فاعلا في النظام الدولي، وبعد ذلك فشلت الولايات المتحدة من كبح جماح التطور التكنولوجي الإيراني ومشروعها "الطاقوي" حيث عجزت أمريكا كليا عن منع التقدم الإيراني. وترافق ذلك مع خسارة المشروع الأمريكي في لبنان المتجسد في القضاء على "حزب الله" ووضع نظام حليف لأمريكا، كل هذه المعطيات تدل على انخفاض نسبة السيطرة والتحكم الأمريكي في الشرق الأوسط بنسبة مئوية ليست بالقليلة، ويضاف إلى كل ما ذكرناه، الفشل الأمريكي في منع تطوير كوريا الشمالية للصواريخ البالستيى العابرة للقارات، حيث أعلنت كوريا الشمالية مؤخرا تصنيعها لصاروخ يطال كل القارة الأمريكية، وهذا ما سنشهد تبعاته في مرحلة لاحقة ستضطر فيها الولايات المتحدة لاستيعاب القوة الكورية.
 
ظهرت أولى دلائل العودة إلى التعددية القطبية من خلال الحرب في سوريا التي بدأت عام 2011، حيث دعم المحور أحادي القطبية الأطلسي بكل ما أمكنه القوى التي تريد تفتيت الدولة السورية ووضع نظام في سورية موالي للغرب الأطلسي لتمرير خططه في والسيطرة على شرق المتوسط وذلك وفقا لمبدأ "الأناكوندا" الذي نقله المفكر والسياسي الأطلسي ألفريد ماهان ويتجسد هذا المبدأ في حصار الأراضي الأوراسية من البحر وعبر الخطوط الساحلية وهو ما يؤدي تدريجيا إلى الاستنزاف التدريجي للخصم، وهنا كانت مهمة المحور الأوراسي بقيادة روسيا للحفاظ على الآماد الشاطئية المحيطة بأوراسيا القارية، بالإضافة إلى موقع سورية الذي يربط بين القارات الثلاث آسيا وأوروبا وأفريقيا، حيث تقع على تقاطع خطوط التبادل والتجارة بين هذه القارات، إلا أن الرئيس فلاديمير بوتين الذي كان قد أسس القوة الروسية لتكون بحجم هكذا تحديات، وقف في وجه الموجة الأطلسية في سورية، وبعد طلب رسمي من الجمهورية العربية السوري أرسل القوات الروسية إلى سورية في أيلول عام 2015 لمواجهة الإرهاب ودعم الحليف السوري، وقلب الطاولة على خطط الأطلسي، الذي كان يقول إنه "أسقط بدون قصد أسلحة إلى "داعش" بالمظلات" وقصف "بدون قصد" الجيش السوري أ:ثر من مرة وهو يحارب تنظيم "داعش الإرهابي، ليأتي سلاح الجو الروسي وصواريخ كالينبر والبارجة كوزنيتسوف ويبدأ القضاء على تنظيم داعش بهذا التحالف الروسي السوري بالإضافة إلى حلفاء المحور من إيران والعراق ولبنان.
 
وبعد التقدم الاستراتيجي للمحور الأوراسي في سورية على حساب تراجع المحور الأطلسي، تمكن بوتين بما يمتلكه من هدوء القوة وقوة الهدوء أن أن يقلب الخلاف بين تركيا وروسيا حول سورية إلى اتفاق استراتيجي أدى إلى انزياح كبير في التوجه التركي باتجاه المحور الأوراسي، وكان هذا خرقا استراتيجيا كبيرا للأطلسي لم تتحدد معالمه النهائية بعد ولكن النتائج الأولى بدأت بالظهور أهمها فقدان أمريكا السيطرة على حليفها التركي وخاصة بعد فشلب محاولة الانقلاب في تموز عام 2015، وثانيها التفاهمات حول الميدان السوري نحو إيجاد تسوية تنهي الحرب وترضي جميع الأطراف.
 
جاء التفكير الاستراتيجي الروسي في عهد الرئيس بوتين في انتهاج التوجه الأوراسي الجديد لرسم مشروع بناء نمط دولي جديد يواجه نموذج الهيمنة الأورو أطلسية الذي تسيره الولايات المتحدة الأمريكية من خلال بناء شبكة من التحالفات في كل من أوروبا وآسيا، بالإضافة للجهود الروسية في بناء نموذج بريكس BRICS  الذي يتكون من خمسة دول صاعدة بقوة "اقتصاديا" وهي: البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا. ومنظمة شنغهاي التي تضم العديد من دول آسيا الوسطى إضافة لروسيا والصين وفتح المجال أمام كل من تركيا إيران وأذربيجان للانضمام لهذا المشروع الاقتصادي الواعد.
 
بالنسبة للتحدي لمحاولة محاصرة القوة الروسية في أوكرانيا من قبل الأطلسي، فقد وضعت الولايات المتحدة كل الدعم لمناهضي روسيا في أوكرانيا، ومنهم زعماء "الثورة البرتقالية" الموالية للغرب (عام 2004)، الذين طرحوا مرارا مسألة إنهاء بقاء الأسطول الروسي في شبه جزيرة القرم. لكن الاتفاقية التي وقعها رئيسا البلدين في مدينة خاركوف الأوكرانية عام 2010 مددت مدة مرابطة الأسطول الروسي حتى عام 2042، مقابل دفع روسيا مبلغا مقداره 100 مليون دولار سنويا كأجرة لقواعدها البحرية في سيفاستوبول، ولكن الانقلاب الأوكراني الأخير الذي أوصل للخكم في كييف قوى لا تخفي عداءها لروسيا هدد من جديد بقاء الأسطول الروسي في شبه الجزيرة، الأمر الذي أثار قلقا مشروعا في موسكو وكان من أبرز دوافع دعمها لحراك شعب القرم ضد الانقلاب وتعبيره عن إرادته الانضمام إلى روسيا، إلى جانب دافع حماية الروس من هجمات القوميين المتشددين. ولا شك أن قبول انضمام القرم إلى روسيا سمح لها بإزالة الخطر المحدق بوجودها العسكري في منطقة ذات أهمية استراتيجية بالغة بالنسبة لها. لتبدأ بعد ذلك موجة عقوبات اقتصادية من قبل المحور الأطلسي بقيادة واشنطن ضد روسيا، ولكن استطاعت إدارة الرئيس بوتين من صد هذه الموجة من العقوبات وتجاوز تبعاتها، فلم يتوقف الاقتصاد والصناعة الروسية عن التطور بعد فرض هذه العقوبات.
 
عودة القوة الروسية كلاعب رئيسي على الساحة الدولية، نتيج عنه رغبة كثير من الدول إعادة تفعيل وتطوير علاقاتها مع موسكو ومنها ما وصل إلى الرغبة ببناء تحالف معها، وازداد عدد الدول التي ترغب بشراء السلاح الروسي الجوي والصاروخي والبري الفريد والرائد على مستوى العالم، فارتفع عدد الدول التي تريد بناء تحالفات مع موسكو التي تتبع سياسة الاحترام المتبادل في العلاقات الدبلوماسية واحترام سيادة الدول، والالتزام بنهج متوازن بين الأطراف في مختلف الصراعات الإقليمية والدولية، وقد أعلنت السودان استعدادها لإقامة قواعد عسكرية روسية على ساحل البحر الأحمر السوداني، وأيضا مصر رفعت من درجة علاقاتها مع روسيا في عهد بوتين إلى مستوى غير مسبوق، بالإضافة تعزيز العلاقات الروسية الخليجية، وكذلك العلاقات الروسية الجزائرية، إلى مستوى عقد صفقات شراء سلاح وتعاون استراتيجي اقتصادي، كل هذا ياتي في وقت يتراجع فيه الدور الأمريكي ويتعزز فيه بالإضافة إلى الدور الروسي دور التنين الصيني الأمر الذي يدخل النظام العالمي في مرحلة التحول من الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية من جديد.