داعش… منظمة قوية أم «أسطورة»؟

داعش… منظمة قوية أم «أسطورة»؟

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٦ يناير ٢٠١٨

الباحثون في علم الإرهاب يتوقّعون «عودة داعش أقوى من قبل»
ليس واضحاً بعد ماذا تخبئ أميركا للعالم بحمايتها داعش في الجيب السوري المتبقي!
*
هرع خبراء ومحلّلون في علم الإرهاب ومكافحته (منهم الحقيقيون وآخرون – بالمئات – ولدوا في سنوات الحرب السورية)، لشرْح «قدرات الدولة الإسلامية (داعش) وقوتها وإمكانيتها للتوسع من جديد بعد هزيمتها في العراق وسورية». وهذا التقدير المنحاز يتجاهل هزيمة «داعش» الحقيقية، والأهمّ من ذلك، لا يأخذ في الاعتبار الدور الرئيسي الذي لعبتْه (وما زالت تلعبه) الإدارة الأميركية في انتشار هذه الجماعة الإرهابية.

ويقتات هؤلاء الخبراء على الدعاية التي تقول إن التنظيم «سيولد من جديد» وسيتمكن من «التوسّع». وهم يعتمدون على الفترة ما بين 2009 و2011 عندما كان عدد أفراد هذا التنظيم (باسمه القديم) يعد ببضعة مئات فقط وكيف تمكّن بعدها من احتلال أجزاء كبيرة في سورية والعراق. ومن هنا بالذات نبدأ هذا المقال لإظهار كيف أن «داعش» – بالحقائق – هو تنظيم انتهازي استغلّ بشكل ممتاز الفرص المتاحة له ولكنه ليس قوياً، كما يدّعي ويوافقه المحلِّلون. والدليل الأكبر أن سقوطه كان سريعاً وأَحْدَثَ دوياً عالياً جداً كشَفَ حقيقتَه.

باختصار، بدأ كل شيء عندما انضمّ أبو مصعب الزرقاوي (الأردني أحمد فاضل نزال الخلايلة) إلى تنظيم «القاعدة» (كان يقود تنظيم أنصار الإسلام في المنطقة الخاضعة لسيطرة الأكراد في شمال العراق العام 2003) وأصبح ممثل «القاعدة» في العراق وحصل على امتيازها.
لم تكن «القاعدة» في العراق الوحيدة التي هاجمت قوات الاحتلال الأميركية في بلاد ما بين النهرين (وكذلك هاجم شيعة العراق وخصومه السنّة). اذ كان هناك العديد من القوميين العراقيين وكذلك البعثيون والقبائل وكذلك أيضاً تنظيمات شيعية، وقد نفّذ هؤلاء هجمات ضدّ الأميركيين. اذاً لم يكن العمل العسكري ضدّ أميركا حصرياً على أفراد القاعدة فقط.

واشتهر الزرقاوي بوحشيته إلى حدّ أُطلق عليه من قبل القاعدة الأم (عندما كان أسامة بن لادن على قيد الحياة) اسم «شيخ الذباحين». وكانت مجموعته في البداية تتألف من نحو مئة جهادي وأكثر من ألف بعثي انضموا إليه.

وقد سجّل أول هجماته «المذهلة» في آب 2003 ضدّ مبعوث الأمم المتحدة سيرجيو دي ميلو في بغداد وفي الشهر نفسه ضدّ السيد محمد باقر الحكيم في النجف. ولم تساهم وسائل الإعلام فقط في رفْع المستوى الدعائي للزرقاوي بعد قطع رأس المواطن الأميركي نيكولاس بيرغ العام 2004 وتوزيع شريط فيديو على الإعلام، بل ان إدارة الرئيس جورج بوش نفسها أقرّت بأنها تجاهلت الفرص لقتله وأعدّت ملف الزرقاوي بطريقة انها نفخت في شخصيته وضخّمتها – كما أقرت علناً – من دون الأخذ في الاعتبار أنها ساهمت في جذب العدد الكبير من المتطوعين لمجموعته ورفعتْ من مكانته دولياً.

وأثناء «الحرب على الارهاب» في العراق، أظهر الاميركيون قدرتهم على التعذيب اللا قانوني والمعيب في سجن أبو غريب، حيث مارس الجنود والضباط أبشع أنواع الإذلال ضد المشتبه بهم. هؤلاء انقسموا، بين مجرمين صغار وآخرين اعتُقلوا عشوائياً مشتبه بهم بأفعال إرهابية. وانتشر خبر أفعال أميركا في أبو غريب كالنار في الهشيم، ليتناسى المحلّلون والعالم ان قوى عظمى تنادي بالقيم والديموقراطية وحقوق الإنسان كانت هي المحفّز الأكبر حينها لجذْب عدد أكبر من المسلمين الغاضبين حيال ما حصل في أبو غريب للانخراط في صفوف «القاعدة» لمقاتلة أميركا.

ومن ناحية أخرى، فقد دافع حاكم العراق الأميركي بول بريمر عن قرار اجتثاث البعث، بما أَقْعَد عشرات الآلاف من الضباط والجنود العراقيين عن العمل من دون أي مستقبلٍ لهم. وقد اكتشف العالم بعد سنوات ان البعثيين كانوا نخبة قادة «داعش».

وكأنّ هذا لم يكن كافياً، فقد أنشأت أميركا «جامعة للجهاديين» في سجون بوكا وكروبر والتاجي. وفي هذه الأمكنة والمعسكرات الذي سُجن فيها غالبية قادة «القاعدة»، استطاع هؤلاء تجهيز الجيش المستقبلي لهم. وقد أنشأوا محاكم شرعية داخل المعسكرات ومحاكم إسلامية لمحاكمة كل مَن رفض الانضمام إلى صفوفهم. وهذا هو نفسه الأسلوب الترهيبي الذي استخدمه «داعش» في مناطق نفوذه: الحكم بالخوف والتهديد.

ومرة أخرى، بعد بضع سنوات، سهّلتْ الولايات المتحدة صعود «داعش» من جديد (حسب تقرير للمخابرات الأميركية) وسمحتْ بانتقاله إلى سورية، وهو بلدٌ بدأت الحرب فيه بحيث بات الأمن هشاً وتالياً صار أرضاً خصبة لنشْر الفكر التكفيري والتجنيد في صفوف الجهاديين. وكان ذلك مسموحاً من قبل أميركا لأن الهدف الأساسي كان تغيير النظام في سورية. وهذا ما برر للعالم تسليح وتقديم الدعم المادي والتدريبي للجهاديين.

وقد أخذ تنظيم «القاعدة» على محمل الجدّ النصيحة التي وجّهها نائب رئيس التنظيم الأم (أيمن الظواهري) عندما رسَمَ خريطةَ طريقٍ للجهاديين بالعمل من أجل «دولة إسلامية» مستقلة كهدف أساسي وأخير للعمل الجهادي. إلا أن الزرقاوي الطموح – ومن بعده القيادة التي أخذت مكانه بعد مقتله – أرادوا مكانة أكبر وعملاً منفصلاً عن «القاعدة الأم»، وبالتالي عملوا لاستقطاب العدد الأكبر من المتطوعين، معتمدين على دعم دولٍ في المنطقة وكذلك على أخطاء أميركا في العراق (الكثيرة) ليعلنوا دولتهم المستقلة.

ويحاول المتخصّصون التقليل من مسؤولية أميركا الرئيسية في نمو الجماعات الدينية المتطرّفة، وتالياً إلقاء اللوم على القادة العراقيين الشيعة الذين دعمهم بول بريمر نفسه في السنوات الأولى لاحتلال العراق.

مما لا شك فيه ان صعود الجماعات التكفيرية لم يكن مسؤولية أميركا فقط، بل ساهم المسؤولون العراقيون بجزء من الأخطاء. كلاهما – أي أميركا وحكام العراق – ساهموا في ذلك، كلٌ على مقدار عمله وأخطائه، على خلاف ما يحاول المحلّلون تصويره، مبعدين المسؤولية الأميركية الكبرى والأولى لذلك.

صحيح أن الشيعة في العراق لم يتعوّدوا على الحكم في السنوات الأولى لسقوط صدام حسين. فأراد هؤلاء التمتع بالثروات الهائلة التي لم يعتادوا عليها بين أيديهم وأرادوا قيادة العراق وامتلاك السلطة.

وفي احد الايام وجدتُ نفسي في جلسة خاصة مع عادل عبد المهدي الذي كان حينها نائب رئيس الجمهورية، وكان حاضراً عددٌ من الوزراء والقادة العراقيين، حين قال: «علينا إعادة فتح مكاتبنا في دمشق، وإزالة الغبار عنها (كان العراقيون في المنفى أيام صدام حسين يتخذون من دمشق وبيروت مأوى لهم ومنطلقاً للعمل السياسي المناهض لحكم صدام). نحن نعرف كيف نكون معارضين ولكننا لا نعلم كيف نحكم وندير شؤون البلاد».

والتقيتُ بالشيخ جلال الدين الصغير الذي كان يوزّع منشورات في شوارع بيروت وكذلك الحال بالنسبة لنوري المالكي أيام حكم صدام. نعم السلطة كانت جديدة على هؤلاء فلم يديروا أمور البلاد كما يجب، لأن صدام منَع ذلك عن العراقيين واعتبر الشيعة ألدّ أعدائه. فأتى هؤلاء واعتبروا السنّة متآمرين عليهم ويخططون لاستعادة السلطة التي انتزعتْها أميركا من السنّة.

كانت رؤية أميركا للديموقراطية في العراق ساذجة، هي التي أصرّت على توريدها للعراق. كانت فكرة سيئة للغاية، ولا سيما ان أميركا أدارتْ العراق عن جهلٍ لديناميّته وعقلية المجتمع واستعداده لاستعادة سيادته بالطريقة الصحيحة، ما أوجد شرخاً في المجتمع العراقي. فلم تلحظ ردة فعل فئة من الشعب المضطهد لعشرات السنين وكيف ستَتَقبل او تَرفض فئة أخرى – وكذلك محيطها ودول الجوار – خسارتهم للحكم في العراق. واستغلّ الجهاديون هذه الفوضى لإيجاد حرب طائفية (كما حصل في تدمير مرقد العسكريين في سامراء) لزيادة أعداد المتطوعين وإشعال حرب شيعية – سنية. وسقط بعض الزعماء الشيعة في الفخ الطائفي تحت عيون الأميركيين الذين جلسوا جانباً يتفرّجون على تَقاتُل المسلمين وكأن لا علاقة أو دخل لهم بذلك.

وعندما أعلنت «داعش» خلافتها العام 2014، لم تكن تلك المجموعة هي التي سيطرت على مدينة الموصل كما صوّرها العالم، بل كانت هناك قبائل وأحزاب سنية أخرى وبعثيون فارون والمجموعة النقشبندية وغيرها، كل هؤلاء تواجدوا في المدينة قبل احتلالها وعملوا داخلها بالتنسيق مع بعض دول المنطقة. نعم، لم تكن «داعش» هي التي أسقطت الموصل بل كانت جزءاً من المجموعة. وقد تلقى جميع هؤلاء دعم محيطهم وحتى مناصرةً علنية من قبل مسعود بارزاني، حتى أُطلق عليها «الثورة السنية». ولم تكن حينها «داعش» عدوّة للجميع. وقد أصبحت كذلك بعدما أعلنت الحرب على جميع حلفائها وكذلك على مناصري قلْب النظام في بغداد وعلى كل مَن رفض سلطة التنظيم.

ولم تقع مجزرة سبايكر (اكثر من 1700 من الشباب المتطوعين في الأجهزة الأمنية أعدموا) – التي تبناها «داعش» حينها وتناقلتها وسائل الاعلام – على يد هذا التنظيم فقط بل شاركت فيها عشائر متعددة من الأنبار وصلاح الدين. إلا أن «داعش» خطفها وروّج عن المجزرة ليبث الخوف في نفوس أعدائه. أما بث الرعب وتخيير الناس – إما معنا وداخل صفوفنا أو ضدنا وبالتالي مباح الدم – فهو نفسه أسلوب «داعش» الذي اتبع داخل المعتقلات الأميركية في العراق. وقد لعب الإعلام الدولي – وكذلك براعة «داعش» الإعلامية وتواجد مناصريه وأجهزته الدعائية القوية الناجحة – دوراً مهماً في تكبير حجم التنظيم ومضاعفة الخوف لدى الجميع لدرجة أن غالبية الأطراف اقتنعت بأن «داعش» قوة لا تقهر (إلى أن صادف ايديولوجيين جبهوه ونجحوا في هزيمته).

وعندما انتقل «داعش» الى سورية العام 2011 ووصل الى بلاد الشام مَبعوث «الخليفة» أبو محمد الجولاني وأنشأ خلاية قوية وكبر حجمه، ما كان منه إلا أن تحدى أميره البغدادي لأنه كان يعلم ما هو حجم «داعش» وما هي قوته على الأرض.

وخلال عملية الفصل بين «داعش» و«القاعدة» انقسم جزء كبير من المقاتلين الأجانب الذين كانوا يقاتلون في صفوف الجولاني والتحقوا بداعش ظناً ان «الدولة الاسلامية» سيُكتب لها النجاح. طبعاً فقد زاد ذلك من قوة «داعش» وارتفع عدد المنتسبين اليه من خلال الإغراءات المادية والإعلامية التي استخدمها التنظيم للاستقطاب. إلا أنه لم يصل أبداً إلى مستوى «الجيش الذي لا يُقهر» لأن انتشاره كان على مساحة كبيرة جداً وأعداؤه من كل جانب على الأرض وفي السماء.

إلا أن «داعش» استطاع استغلال ضعف الجيش السوري الذي كان يقاتل على جبهات عدة. واستغلّ أيضاً قوته الدعائية ومواقع التواصل الاجتماعي ليفاجئ كل المراقبين بطرقه الوحشية بالقتل (غرقاً وحرقاً وبقطع الرأس والرمي من مباني مرتفعة والرجم وقيادة دبابة على أجساد المعتقلين واستخدام المتفجرات لتفجير السجناء على طريقة صدام حسين). كما لجأ الى أساليب بصرية خاصة وألعاب الكترونية واستطاع تضخيم حجمه ليتكلم كل الناس عنه.

لقد تمكّن «داعش» من ضخ الخوف ونجحت إستراتيجيته ضد العراقيين العام 2014 حيث غادرت غالبية الناس بغداد والنجف وكربلاء قبل وصول التنظيم (الذي لم تصل أبداً قواته الى هناك). وانقلب الميزان حين أنشئ الحشد الشعبي وحضرت قوات ايديولوجية (حزب الله ومتطوعون عراقيون وأفغان وإيرانيون وغيرهم) إلى سورية. وقد عَرَفَ هؤلاء كيف يتصدّون لطريقة داعش البدائية في القتال: مفخخات وانتحاريون وقنّاصة.
واستعاد العراق أرضه من «داعش» في وقت قصير. أما دمشق فقد أرجأت القضاء على التنظيم في السنوات الأولى لأن الأولوية كانت لـ «القاعدة» وحلفائها المدعومين من الغرب ودول في المنطقة تحت مبدأ واضح: داعش «يتيمة» لا داعم خارجياً لها، بينما تتمتع «القاعدة» بأسلوب عسكري مهمّ ومنْتِج وكذلك الابتكار العسكري والدعم اللازم للاستمرار.

هُزم «داعش» لحظة استعدّ العراق وسورية لاستعادة الأرض. ولا تزال حتى اليوم جيوب صغيرة باقية، منها في الشمال – الشرقي السوري تحت حماية الولايات المتحدة.

وبالنظر إلى سجلّها، فقد استخدمت أميركا التنظيم لمآربها السياسية الخاصة منذ إنشائها في العراق عندما رفض الرئيس جورج بوش الابن قتْل الزرقاوي. أما ماذا تخبئ أميركا للعالم بحمايتها «داعش» في الجيب السوري المتبقي؟ فهذا ليس واضحاً بعد.

ويتوقّع الباحثون في علم الإرهاب «عودة داعش أقوى من قبل» تحت نفس المسمى أو مسمى آخر. وقد برع التنظيم في تضخيم نفسه عندما لم يجد أحد يجابهه وعندما كان الجميع يخافون منه، وكذلك برع في عملية الضرْب والهرَب، وقد أَثْبت فشله في الحكم. وبفضل هذا الفشل، دفن مشروع «الدولة الاسلامية (أو الإمارة)» إلى غير رجعة لعشرات السنين المقبلة على الأقل. وقد طال الضرر ايضاً «القاعدة»، ولن يكون هناك بيئة تحميه أو مجتمع يحضنه عدا ما يمكن شراؤه بالمال المخبأ (نفس أسلوب صدام). إلا أن داعش – على الرغم من إمكانية توجيه عمليات متفرقة – أضعف من أن يولد من جديد.

وإذا اعتاد الخبراء على بث أخبار أن «داعش ستعود من جديد» ليحافظوا على لقمة العيش، فعليهم التوقف عن ذلك ليكون العالم أفضل، وهذا جانب من المشكلة. أما الجانب الثاني والمشكلة الحقيقية فهي في استخدام الدول الديموقراطية الليبرالية للجماعات الإرهابية لمصالحها الخاصة ولتعزيز سياساتها الخارجية، وهذه هي الثغرة الوحيدة المتبقية والتي يستطيع من خلالها «داعش» النمو من جديد.