أي لحن يعزف عازف الناي؟.. بقلم: د.ندى الجندي

أي لحن يعزف عازف الناي؟.. بقلم: د.ندى الجندي

تحليل وآراء

الأحد، ٢٦ نوفمبر ٢٠١٧

أي رياح شؤم هذه وماذا تحمل معها!
إنه الموت لا محالة.. الشر يحيط بنا من كل صوبٍ، أما من مخلِص!
يدب الخوف والقلق في النفوس وتتعالى الأصوات "لم يبق شيء نقتات به.. أسراب سوداء من الجرذان أتت من الشمال والتهمت حصاد القمح كله، لم يبقى شيء.. إنه الموت لا محالة".
أي بلاء أصاب مدينة Hamelin الألمانية؟
أعداد هائلة من الجرذان اجتاحت المدينة ولجأ أهلها إلى كل الوسائل للقضاء على هذه القوارض دون جدوى حتى إنهم جلبوا القطط من Bermer وكانت النتيجة عكسية حيث تكاثروا أكثر وصاروا أشد جوعاً والتهاماً!
فكيف يتم انتزاع هذا الشر القادم من الشمال، أما من مُخلص؟
يوم الجمعة تجمع أهل المدينة في ساحتها يترأسهم أثريائها وساستها على أمل إيجاد حلٍ سريع وإيقاف هذه الهجمة الشرسة التي تستنزف حياتهم ولكن دون فائدة لم يعد يتقدم أحد بأي حل أو رؤية تضع خطة تمكنهم من النجاة، لقد فقدَ الجميع الأمل، إنه الموت لا محالة أما من مخِلص!
في هذه اللحظة القاتمة ظهر فجأة رجلٌ غريب لا ينتمي إلى هذه المدينة، طويل القامة، عيناه واسعتان ونظراته ثاقبة، يرتدي زياً مختلفاً وقبعة حمراء مدببة من الأمام، اقترب الرجل الغريب من أثرياء المدينة وتوجه إليهم قائلاً:
"أنا عندي الحل! وأستطيع أن أساعدكم في الخلاص من هذه الجرذان على أن تعطوني مئة قطعة ذهبية".
وافق أثرياء المدينة على ذلك فما كان من الرجل إلا أن أخرج من جعبته ناي وبدأ يعزف ألحاناً لم يسمعها من قبل سكان المدينة ألحاناً متناغمة لها وقعٌ خاص في الأذن وبشكل لافت ومفاجئ بدأت الجرذان تخرج الواحدة تلو الأخرى تتبع هذه الموسيقا وتسير بأرتال خلف عازف الناي وهو يعزف متجهاً نحو نهر weser.. الموسيقا تصدحُ في فضاء المدينة تضفي جواً ساحرياً والجرذان تتبع هذه الموسيقا حتى وصل عازف الناي إلى ضفة النهر فنزلت الجرذان في الماء الواحدة تلو الأخرى وغرقت كلها في النهر!
عاد بعدها عازف الناي فرحاً إلى البلدية في ساحة المدينة بعدما أنجز مهمته بنجاح يلتمس الذهب الموعود به من أثريائها فهل سيوفون بعهدهم ويدفعون له الذهب؟؟
"الجرذان قد غرقت وزال الخطر.. لم يبقى شيء نخشاه فلماذا يتوجب علينا دفع الذهب؟".
هذا ما رأته الطبقة البرجوازية للمدينة، فنكثت بوعدها ورفضت أن تدفع لعازف الناي الذهب المتفق عليه وما كان منهم إلا أن رموا له بعض الدراهم فغضب عازف الناي أشد الغضب وهددهم بأنهم سيدفعون الثمن غالياً فسخروا منه ورموه خارجاً.
غادر عازف النادي ونار الانتقام تشتعل في صدره وفي يوم الجمعة التي تليها عاد إلى ساحة المدينة عند الظهيرة ولكنه كان يرتدي قبعة غريبة الشكل قرمزية اللون أشبه بنيران البركان المشتعل وأخرج من جعبته ناي مختلف عن الناي الأول وما إن بدأ بالعزف حتى خرج أطفال المدينة الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة والخامسة عشر مسحورين بالأنغام الموسيقية يتبعون عازف الناي يسيرون خلفه بخطى ثابتة وفق مساره!
استمر عازف الناي بالعزف حتى خرج من المدينة والأطفال تتبعه ووصل إلى جبل (كوبينبرغ KoppenBerg) حيث دخل إلى مغارة في هذا الجبل ودخل معه الأطفال وأنين الناي بدأ يتلاشى رويداً.. رويداً حتى اختفى واختفى معه الأطفال ومن يومها لم يُعد أي طفل سوى طفل واحد كان أعرجاً ولم يستطع اللحاق بركب الأطفال الآخرين نتيجة إعاقته.
نهاية حزينة لحكاية غريبة، تثير تساؤلات عديدة وتطرح أفق وأبعاد مختلفة فأي معنى تُجسد إذا حاولنا التبحر في عُمقها ورصد رمزيتها؟
ماذا تُمثل الجرذان ومن هو عازف الناي وماذا يرمز الأطفال ولماذا الموسيقا دون غيرها من العنوان؟!
الجرذان تسبب مرض الطاعون أي تحمل الموت فهي تُمثل الشر الذي يقضي على كل شيء.. إنه صراع الخير مع الشر، الحب مع الكره.. صراع الحياة مع الموت.
الجرذان أتت من الشمال لتلتهم كل شيء إذا حاولنا التفكر قليلاً ألا تعكس صورة من صور البرجوازية العالمية وتمثل في عصرنا هذا عالم الشمال الذي يجتاح عالم الجنوب ويسلب كل مقدراته.
الصرخات تتعالى "الويل الويل.. لم يبقى شيء، التهمت الجرذان كل الحصاد أما من مُخلص" وبشكل غامض يظهر الحل السحري!
يأتي الحل ببساطة دون تفكير من رجل غريب وهل يكون الحل مناسباً وقد تم اقتراحه من رجلٍ غريب عن ثقافة المدينة!
المشكلة داخلية فكيف يأتي الحل من الخارج!
حكاية عازف الناي حكاية كل زمان يعيش فيه الإنسان بعبثية قاتلة، ليله يشبه نهاره، لا يدرك أين خطاه تحمله وأي هدف يرجو.. يعيش آلامه وهو ينتظر العصا السحرية التي تُخلصه من أحزانه وهل يسود الإيمان بالسحر والشعوذة إلا في حالة غياب الفكر؟
ثقافة المُخلص تعكس العجز عن رؤية الحقيقة في العودة إلى الذات ومن ثم العمل على التغيير, الحل في الحكاية ظهر فجأة دون عناء التفكير، إنها محاولة إقصاء الفكر والإيمان بثقافة المُخلص وهل يكون الخلاص ونجاح أي حل بشكل فردي أم باجتماع الكل وعلى قلبٍ واحد؟
يتساءل البعض كيف اجتاحت الجرذان المدينة بأعداد هائلة، ألم يتنبه سُكانها وساستها يوماً لهذا الخطر؟؟
ألا تعكس حالة سُبات فكري تعيش فيه المدينة تتجلى بانعدام الحس بالمسؤولية!
لنحاول أن نتفكر قليلاً في هذه الصورة التي تُجسدها الحكاية ألا تشبه الواقع السياسي الذي نعيشه اليوم في عصر العولمة، اجتياح فكري بشتى وسائل الإعلام حيث تفتعل بعض الدول المشاكل الكبرى والفتن لدول أخرى بهدف تجزئتها وفرض سيطرتها عليها، وتحقيق مصالحها ثم تأتي لتُملي عليها الحلول.
الجرذان تستقطب من كل بقاع الأرض لتحط في مكان هام، ثم تأتي لتقدم لها الحل إنها المُخلص ولكن مقابل الذهب وإذا رفضت صار مصيرها العدم لا مستقبل لها وهذا ما يرمز إليه الأطفال.
الأطفال هم الغد، هم المستقبل، هم الأمل وإذا فقدنا الأمل فقدنا كل شيء!
عازف الناي التزم بالاتفاق المُبرم أما أثرياء المدينة نكثوا بعهدهم فقد أعمتهم شراهتهم للمال وجشعهم عن رؤية الحقيقة وتجلي خطورة الموقف واستهانوا بقوة عازف الناي فكانت النتيجة مأساوية.
الحكاية ترمز إلى أهمية الاستماع للآخر وعدم الاستهانة بأي شخص وبأي تهديد مهما كان الشخص يبدو ضعيفاً والأخطر أنهم نكثوا بوعدهم وهذا إشارة إلى انهيار المنظومة الأخلاقية وفقدان المُثل والقيم فما هو حال الأمم إذا فقدت أخلاقها؟
إنه التوهان لقد أضاعوا البوصلة وتاه مستقبلهم.
أما الموسيقا فما هو دورها؟
للموسيقا أثر سحري في النفوس هكذا تُمثلها الحكاية والاتفاق المبرم بين عازف الناي وأثرياء المدينة يعطي مكانة كبيرة للفن والفنانين وتجاهل الفن ودوره يفقد الإنسان جانب هام من حياته حيث تغدو الحياة لا معنى لها!
الفن يمتلك قدرة خارقة على محاكاة الواقع والموسيقا لغة عالمية لا حدود لها، تخترق القلوب وتعمل على تهدئة النفوس حيث تستخدم في العلاج النفسي فهي مشحونة بالأحاسيس العالية ولها قدرة فائقة على احتواء شاعر الإنسان.
في الحكاية استطاعت الموسيقا انتزاع الجرذان من المدينة وما هي إلا صورة لانتزاع نوازع الشر الكامنة في النفوس.
الفن أداة راقية للتعبير عن المشاعر وتهذيب الأحاسيس وكأن الفن سيف نحارب به الشر فهل الفن قادر على إصلاح ما أفسدته السياسة والحروب؟
أهم ما تطرحه الحكاية من إشكالية قد يعاني منها المجتمع هي مسألة انخراط الفرد في الجماعة والانسياق لها بشكل سلبي، حالة مرضية يتماهى فيها الفرد مع الجماعة بحيث تتلاشى فرديته في حالة غياب الفكر وانحلال الأنا، حالة تبعية وانسياق بشكل أعمى ضمن هذه الجماعة مما قد يخلق لديه حالة من فقدان الحس بالمسؤولية وقد تشكل حالة خطر عظمى إذا كان الفكر الذي تُمثله الجماعة يتسم بأفكار عنصرية وإرهابية فتغدو الجماعة قوة هدامة.
في الحكاية لم نسمع صوت فردي ولم يتقدم أحدهم بأي حل للمشكلة التي يعانون منها، وفي سياق الأحداث عندما رفض أثرياء المدينة دفع الذهب لعازف الناي لم يعترض أحد من سكان المدينة سواء كان من عامتها أو ساستها على هذا السلوك اللا أخلاقي فالجميع في حالة سُبات فكري يتجلى في حالة لا وعي وإدراك لخطورة الموقف حتى الأطفال في نهاية الحكاية ساروا بانسياق تام وراء عازف الناي يتبعون بشكل أعمى ما يُعبر عنه في ألحانه..لا ينحرفون أبداً عن مساره حتى لو كان مصيرهم الزوال إلا طفل واحد أعرج لم يستطع اللحاق بركب الأطفال، تأخر بسبب إعاقته فأي رمز يُمثل هذا الطفل الأعرج؟
هل في هذه الصورة إشارة إلى ضرورة التفكير قبل القيام بأي فعل وعدم التسرع وهذا يحتاج للوقت.
يقول المحلل النفسي الإيطالي (أوجينو غابري Eugenio Gaburri) في مقالته (الوعد الوهمي لعازف الناي).
"في الحكاية كل شيء يحدث بسرعة وهذا بديهي عندما يكون العقل مغيباً عن التفكير ولكن إمكانية فهم وإعطاء معنى لما حدث تعود إلى ذاك الشخص الذي يُركز على الموضوع وهنا يستعيد متعة التفكر ويستنبط القدرة على التفكير الخلاق في ذاته".
الحكاية تدعو في جوهرها إلى التفكر.
عازف الناي يعزف لحن الوجود
بعد التفكر في عمق هذه الحكاية نتساءل عن وجودنا فإن أي معنى نضفيه على حياتنا؟
إذا لم نكن نمتلك الحاضر فأي مصير ينتظرنا؟
هل نمتلك القدرة على مكاشفة الذات ومن ثم العمل على تغيرها أم أننا نعيش في عبثية لا نحترم ذاتنا فأي مستقبل نتوقع؟؟
هاجس الخلاص يدعونا للتفكر
والخلاص لا يكون إلا بتوظيف الفكر
أدعوكم للتفكر.

nadaaljendi@hotmail.fr