المشروع القومي العربي.. واقع وطموح.. بقلم: د.سليم بركات

المشروع القومي العربي.. واقع وطموح.. بقلم: د.سليم بركات

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٠ أكتوبر ٢٠١٧

يكثر الحديث في هذه المرحلة عن القومية العربية والمشروع القومي العربي، وعن كيفية تفعيلهما بعد أن حل المشروع الامبريالي الصهيوني الرجعي الإرهابي ضيفاً ثقيلاً على الوطن العربي، وبعد أن تشعبت الحوارات بين المؤمنين بمبادئ القومية العربية وبين غيرهم بما يوحي بغياب هذا المشروع، أو إنه بدون حضور، لكن واقع الحال أنه حاضر ويتململ في ضمير الإنسان العربي، لكنه مغيب في هذا الوضع العربي المعقد، والذي يعاني من تحديات متعددة، منها ما يتعلق بالتراث، ومنها ما يتعلق بالوافد الخارجي، ومنها ما يتعلق بالواقع.. زد على ذلك، الحملة المركزة من أعداء العروبة على العروبة، والتي تستهدف تهميش الفكر القومي وصولاً إلى إلغائه، متهمين إياه بخشبية التفكير وعدم الجدوى والابتعاد عن الواقعية والخروج من التاريخ. وهو تغييب يتحمل فيه المفكرون القوميون جزءاً كبيراً من المسؤولية، بسبب حضور الحوافز الإيجابية الوحدوية للشعب العربي الذي يسعى إلى إيجاد مكانته في عالم مذهل بقدراته وإنجازاته.

إن النقطة المنهجية التي أرغب في لفت النظر إليها من خلال هذا العنوان هي أن البحث في قضايا المصير العربي تستدعي التعمق في خصوصية الأمر المبحوث، حتى لا يكون الوقوع في الانزلاق والأوهام، ولاسيما في أمر يمس عقيدة حزب سياسي كحزب البعث العربي الاشتراكي، الذي اقترن وجوده بالدعوة إلى القومية العربية، والى لملمة أشلائها بالمشروع القومي العربي منذ أربعينيات القرن المنصرم وحتى يومنا هذا.. مشروع أخلص له الحزب، وأكد عوامل استنباطه من صميم الواقع العربي. كيف لا وهذا الحزب يمثل حركة عربية قومية شعبية انقلابية تناضل من أجل الوحدة والحرية والاشتراكية، وتحت شعار أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة! وكيف لا وهذا الحزب مؤمن أن القومية العربية حقيقة خالدة، وأن الشعور القومي الواعي الذي يربط الفرد بأمته هو شعور مقدس يحفز على التضحيات، ويبعث الشعور بالمسؤولية التي لا تعالج السياسة القطرية إلا من وجهة النظر العربية العليا! ومن ثم، أليس من منطلقات البعث ومبادئه صمود سورية شعباً وجيشاً وقيادة في مواجهة هذه الحرب الكونية الإرهابية المعلنة عليها؟! ومن ثم، أليس من مبادئ البعث وقيمه، ومن اللحمة في العروبة، استوحت سورية إرادتها في تفعيل صمودها، وفي التسريع في تحقيق انتصارها؟!

دعونا نرصد أحداث الواقع العربي منذ بداية ما يسمى بالربيع العربي وحتى يومنا هذا، فهل كانت هذه الأحداث بالضرورة، أم كانت بالحتمية التاريخية حتى في ظل أكثر الأوضاع سوءاً؟ وبالتالي، ألم يكن ما أوصل الأمة العربية إلى ما هي عليه هذا الحصاد المر للعديد من الممارسات التي فرضها عجز النظم العربية عن مواجهة التحديات التي واجهتها؟ وهل نبالغ إذا قلنا أن كل المظاهر الكاذبة، وكل الأقنعة المضللة قد تم تعريتها من خلال صمود سورية في مواجهة هذه الحرب الكونية الإرهابية التي تستهدفها؟ ربما استدلينا من خلال عملية الرصد هذه أن الوجود العربي كان محاصراً، وإنه سيبقى محاصراً، حاضراً ومستقبلاً حتى تنتصر سورية على أعدائها، أعداء الأمة العربية الواحدة.

منذ سبعينيات القرن المنصرم ودوائر الغرب الامبريالي الصهيوني تعمل بدأب على شل فاعلية القوى العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا بل حتى العسكرية والأمنية، ولعل أبلغ تعبير عن الاستهانة بقدرات العرب هو هدر العرب أنفسهم لهذه القدرات. فمن وجهة نظر معركة المصير العربي، لم يكن هناك من علاقة جدلية بين الإنماء العربي والأمن العربي في مواجهة المطامح الصهيونية والمخططات الاستعمارية، بمعنى لم تصب القدرات العربية في الوعاء العربي، ولم تتحول الأموال العربية إلى أدوات إنتاج والى طاقات تنمية للخروج من دائرة التخلف، ولا إلى بناء سياج فعال للأمن العربي يضع حدوداً للغطرسة الصهيونية ومن يغرد في سربها، وحتى لم يكن هناك مجرد تفكير في بناء القدرات الذاتية العربية في مجالات الأمن الغذائي والأمن التكنولوجي والأمن العسكري، والتي تتطلب التمويل العربي المتكامل، بل على العكس من ذلك نجد ازدياد التبعية العربية للغرب استيراداً وتصديراً، وبعيداً عن آلية التحرر والتوحد العربي كما كان مأمولاً.

في ظل هذه الفرص الضائعة، وهذه الإمكانيات المهدورة، تراخت المجتمعات العربية ليكون رضوخها إلى موجة استهلاكية عارمة أفقدت الأمة العربية المهم من ثرواتها البشرية وكوادرها العلمية؛ هذا بالإضافة إلى أوضاع سياسية لا تحسد عليها، سببتها النزاعات العربية العربية، ليعيش الوطن العربي معلولاً، مضيعاً مظاهر القوة والتلاحم، وليصبح العرب بلا ثورة، وبلا قدرة، وبلا ثروة، الأمر الذي أدى لاحقاً إلى الهجوم الكبير من أعداء العرب على العرب بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وإلى مرحلة لم يبق من خلالها للعرب سوى الارتجال والحماس والطوباوية بعيداً عن التعمق والتأمل الواعي لكافة الأبعاد والتناقضات والتشابكات التي تحكم، وتتحكم، بالواقع العربي. وفي مقابل هذا الضياع العربي المأزوم، كان الفكر الصهيوني شديد الحيوية، باحثاً عن تحقيق أحلامه، مستفيداً من تردي الأوضاع العربية؛ ومن ثم جاءت التسويات الاستسلامية مع إسرائيل في لحظة من أضعف لحظات الوجود العربي، من حيث القوة والردع، ومن حيث الموازين والتوازنات الدولية، ووفق حالة من انعدام الوزن العربي، أكان ذلك على مستوى الفكر السياسي، أم على مستوى النضال القومي من أجل التحرر والنهوض والتوحد، أم كان على مستوى الواقعية في التفكير المروج لمكاسب السلام الناجمة عن تسوية الصراع العربي الإسرائيلي بالشروط الإسرائيلية؛ ولكي نكون واقعيين يجب ألا يساورنا الشك أن في تفاوض الإسرائيليين مع العرب سيكون على قاعدة أن كل متر مستعاد للعرب من الأرض العربية يقابله اقتطاع كيلومتر من الجسد العربي الحي، ومن مقومات النظام العربي القائم.

من المفيد هنا أن نستحضر التاريخ في معاهدة سايكس بيكو، وفي كيفية التعامل البريطاني الفرنسي مع الشريف حسين وابنه فيصل أثناء هجوم القائد البريطاني، اللمبي، على المناطق الشمالية الغربية من بلاد الشام (سورية الطبيعية)، حيث أمر في أيلول عام 1918 قواته الحليفة بالتأخر عن قوات فيصل وتركها تدخل دمشق وحدها، حتى لا تلقى القوات الأجنبية مقاومة محلية عربية في بلاد العرب، سورية كما كانت تلقب في ذلك الوقت؛ ورغم هذا فقد اخبر اللمبي فيصل ابن الحسين، وهو في طريقه إلى دمشق، أن الأوامر البريطانية تقضي ببقاء فلسطين خارج مملكة سورية، شأنها في ذلك شأن لبنان جبلاً وساحلاً، كما تقضي بإشراف فرنسا على ولاية بيروت وولاية دمشق. ما أشبه الأمس باليوم، ففي الأمس، وبالضبط في كانون الثاني 1919، كان اتفاق الملك فيصل مع حاييم وايزمن الصهيوني على قيام الدولة اليهودية، واليوم تحدث وتتكرر مثل هذه الاتفاقات بين إسرائيل والرجعية العربية من أجل تحطيم قدرات سورية العروبة بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

ما تدعو إليه سورية كان، ومازال، التفاهم العربي المسبق على مواصفات ومعالم الأوضاع النهائية المتعلقة بالمصير العربي المشترك للأمة العربية، حتى لا تكون التنازلات ولا يكون الارتجال؛ ما تطلبه هو إعداد العدة والتحسب لمخاطر التلاعب بالعهود والمواثيق التي تخص المصير العربي، فمكاسب السلام وجوائزه لا تعطي منحة لمن لا يضع حدوداً للثوابت التي لا يمكن التنازل عنها، لأن الضمان للمستقبل هو في الحساب الواقعي القومي، وفي الاستعداد لكافة السيناريوهات البديلة. وشتان ما بين واقع قومي متحرك نحو الأفضل وواقع قومي يقوم على التمرغ في وحل الواقع، والاستسلام للمكتوب والموحى به من قبل العدو الصهيوني.

إن ما تسعى إليه سورية يمثل صيحة عربية وطنية قومية علمية أمينة على الأمة العربية الواحدة، وفيما يخص المستقبل العربي الواحد. لكن ما يحدث اليوم هو مجرد نتاج عشوائي لتداعيات الأحداث، وليس وفق مخطط يشارك فيه العرب حتى لا يكون إخراجه في هذا الشكل المزري. ما تسعى إليه سورية هو إزالة الالتباسات، وتبديد الأوهام، وفتح الطريق أمام صناعة المستقبل بعزم وإرادة عربية، لأن ما يجري اليوم على الساحة العربية هو إضعاف للقومية العربية، وتفتيت للوحدة الوطنية داخل القطر العربي الواحد، وهو إذكاء لنيران التناقضات الطائفية والإثنية والقبلية والعشائرية وحتى المناطقية. وبالتالي، نجد تصاعد التناقضات والتناحرات والحساسيات العربية لتفكيك بنيان التضامن العربي، لا بل النظام العربي برمته، وهو تصاعد مرتبط بإعادة تعريف المصلحة الوطنية لتكون متطابقة مع المصلحة القطرية، ومن خلال منظور ضيق لا يرتبط بالإطار العربي، ولا بالمصلحة القومية العربية العليا؛ تصاعد يؤدي إلى منحى خطير بالتفكير الذي يجري ترويجه إعلامياً وبضراوة، لتكون المكاسب الآنية لبعض الدول العربية مقابل الخسائر الجماعية للأمة العربية، والتي سوف تلحق الضرر بمصير الوطن العربي، وأمنه، وأمائه، ونهضته. إن المصلحة القومية العربية عند سورية العروبة لا تقاس بلغة الحسابات، بل بلغة التفاعل والتكامل في عالم يتحد ويتكامل.

ما تطلبه سورية في هذه المرحلة، ليس القفز فوق الواقع بكل تعقيداته وتضاريسه وخصوصياته، وليس الحديث عن أيهما أفضل طرحه في هذه الظروف: الوحدة الفيدرالية أم الوحدة الاندماجية؟ إن ما تطلبه سورية العروبة هو التعامل مع الواقع العربي مهما كان أليماً ومأزوماً، ما تطلبه هو الخط الوحدوي العربي السليم، المتجه بالأمة العربية نحو الأفضل، بعد كسر القيود والارتهانات وزحزحتها، من أجل توسيع رقعة الحركة نحو العروبة المتميزة بالمخزون العاطفي المتوارث عربياً عبر التاريخ. إن الحال العربي اليوم من منظور سورية البعث هو حصيلة تراكمات سابقة جعلت الجسم العربي في حالة من التآكل وفقدان المناعة، وحالة من الاتكالية حصرت طموحه بتقليص الخسائر وسد الثغرات، تاركاً لغيره صناعة التاريخ وتقرير المصير. وكيف لا يكون هذا وحالة الاستشعار بوحدة المصير العربي مغيبة، فلا بوصلة توجهه، ولا مرجعية تضبطه، ما يؤكد ضرورة الوجود لخطوط استراتيجية عروبية قومية وطنية تربط العواصم العربية مصيرياً ببعضها مهما كانت الحساسيات والحسابات، لأن بمثل وجود هذه الخطوط يرتسم خط الحياة والمنعة للأمة العربية في عملية المواجهة التاريخية المستمرة ضد غدر الزمن وتحديات المستقبل.

بقي أن نقول: لقد تقلب العرب عبر تاريخهم الحديث والمعاصر بين المزايدات والحماسات، وبين المناقصات والتنازلات تحت شعارات الواقعية والاعتدال، لكن ما هو مطلوب هو ارتباط الطموح العربي بتضاريس الواقع المدورس.