رِباع الشرق.. بقلم: مانيا كشيشيان

رِباع الشرق.. بقلم: مانيا كشيشيان

تحليل وآراء

الخميس، ٣ أغسطس ٢٠١٧

يحمل الربيع في طيّات جوهره أفقاً للتفاؤل والاستبشار، فالربيع نهضة الطبيعة بعد سبات الشتاء، حيث تزهر الربى وتتفتح براعم الأمل ليرتشف النحل الرحيق ويتطاير العبق مع الأثير، وتعود الطيور لأعشاشها.
هذه هي صورة الربيع التي تتوارد للذهن للوهلة الأولى، ولكن الإنسان يغفل أحياناً أن يرى المنظر كاملاً. فكم من ربيع أيقظ أيضاً المسخ المكنون في أعماق الشر لينهض وينقش الظلم والسواد بالدم على صفحات التاريخ، وكأنه يتلذذ بمآسي البشر ويروي عطشه من دماء الأبرياء ويسد رمقه من آهات وويلات أخيه الإنسان.
في رحلة متواضعة بين سطور مجريات القرن الماضي أردت أن ألفت انتباهكم لمقتطفات من رباع شهدتها البشرية في الشرق الاوسط تحت نير الطغيان ومخالب العدوان. إلى من يود تصفح أحداث القرن العشرين نذكر غزو فرنسا للمغرب تحت غطاء معاهدة الحماية الفرنسيةفي 30 آذار 1912،فبعد توقيع المعاهدة من قبل السلطان عبد الحفيظ استمرت (الحماية) حتى حصول المغرب على استقلاله عام 1956. والجدير بالذكر هنا بعض بنود المعاهدة آنفة الذكر:
•    تأسيس نظام جديد في المغرب يشمل الإصلاحات الإدارية والعدلية والتعليمية والاقتصادية والمالية والعسكرية
•    احترام هذا النظام لحرمة السلطان وشرفه
•    تفاوض الفرنسيين والأسبان على مصالح الدولة المغربية في المناطق الشمالية
•    وجوب مساعدة السلطان على الاحتلالات العسكرية الفرنسية بالايالة المغربية لضمان الامن
لنمضي، ونصل إلى 16 أيار 1916 حين تم التصديق على نص اتفاقيةتوجتالمراسلات السرية بين الدبلوماسيين البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، حول كيفية تقاسم الكعكة العربيةبموجب اتفاقية سُميّت فيما بعدبأسميهما(اتفاقية سايكس-بيكو) حيث تم تقسيم الهلال الخصيب وحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي للهلال (سورية ولبنان ومنطقة الموصل في العراق)، أما بريطانيا فامتدت مناطق سيطرتها من الطرف الجنوبي لبلاد الشام باتجاه الشرق لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سورية. كما تقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا. في الوقت ذاتهنص الاتفاق على منح بريطانيا مينائي حيفا وعكا على أن تكونلفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، وبالمقابل، منحت فرنسا لبريطانيا استخدام ميناء الأسكندرونة الذي كان سيقع في حوزتها.
بعدئذٍ تم التأكيد مجدداً على نصاتفاقية سايكس-بيكو في ربوع مؤتمر سان ريمو 19-26 نيسان 1920التي حددت مناطق النفوذ البريطانية والفرنسية في المشرق العربي.وتتوجت بأن قسمت سوريةالكبرى إلى أربعة أقسام: سورية، ولبنان، والأردن، وفلسطين. على أن توضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، والعراقوفلسطين وشرقي الأردن تحت الانتداب الإنكليزي مع الالتزام بتنفيذ وعد بلفور.
وأما بشأن فلسطين تتابعت حلقات مسلسل الكارثة، فمن النير العثماني إلى الانتداب البريطاني وسايكس بيكو ووعد بلفور، إلى انتهاء مفعول صك انتداب عصبة الأمم على فلسطين وجلاء البريطانيين في 14 أيار 1948 والإعلان عن قيام إسرائيل في اليوم التالي وتقسييم فلسطين إلى ثلاث وحدات سياسية: إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة، إلى حرب 1956، فحرب 1967، وأيلول الأسود 1970، وماتزال نواعير نهر الدم تدور وتدور حاملة أرواح الشهداء إلى العلا وغدر الطغيان إلى ضمائر الأشقاء، أملاً أن يجد الأنين مسمعاً، ولكن...
في تلك الحقبةانتشرأيضاً نشيج العراق، التي أصبحت كما ذكرنا عقب الحرب العالمية الأولى وهزيمة العثمانيين خاضعة للانتداب البريطاني حتى عام 1932، مع الأخذ بعين الاعتبار الاتفاقية التي وقعتها بريطانيا مع العراق في عام 1930 والتي تقضي بالسماح للبريطانيين إنشاء قواعد عسكرية والتنقل دون قيود في الأراضي العراقية، ولكن ما لم يكن في الحسبان أن القوات العسكرية العراقية تمركزت في مواقع استراتيجيةحول القاعدة الجوية البريطانية وعرقلت المسير نحو المبتغى،فشنت القوات البريطانية هجوماً في 2 أيار 1941 واندلعت الحرب الأنجلو-أروية، وتمخضت احتلال القوات البريطانية للعراق.
كذلك تبدّد صدى الأنين ووصلت رحى الإجحاف في 14 آذار 1978 إلى الأرزة اللبنانية التي كانت تذرف الدمع بسبب الحرب الأهلية، وهنا جاء الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، بحجة خلق منطقة عازلة بعرض 10 كم على طول الحدود وفي عمق الأراضي اللبنانية، ما لبثت هذه الذريعة أن أصبحت 10% من الجنوب اللبناني، ولكن مع حلول شهر أيار تراجعت إسرائيل، مع أنها لم تتخل عن "المنطقة الأمنية" التي تتراوح عرضها ما بين 4 و12 كم على طول الحدود الجنوبية للبنان.
كل هذا كان في الشأن العربي، أما في الشأن الإقليمي في تلك الآونة، فمن له أن لا يتذكر أول جريمة كبرى في القرن العشرين وإحدى أكبر وصماتالعار على صفحات التاريخ البشري، حيث حصد جشع المفترس مليون ونصف ربيع، شعب بأكمله أُبيد وذُبح.
تطبيقاً لسياسة التتريك ورغبةً بنهش الأخضر واليابس، قامت السلطات العثمانية في 24 نيسان 1915 بإعدام المئات من المفكرين والأدباء والشخصيات البارزة من أبناء الشعب الأرمني في الساحات العامة وعلى ملء البصر، كما بدأ العسكر العثماني بتنفيذ أوامر "السلطات العليا" وتهجير الأسر الأرمنية عنوةً، هنا بدأت أحداث درب الآلام، من قتل وتنكيل وحرق واغتصاب وسرقة وبيع البشر، ومن كتب له الله أن ينجو من خوالب الأوباش تحدّى الموت في الصحراء، أو غالباً ما تشوق الموت بعد ما شهد الأهوال والفظائع.
لقد كانت حكومة جمعية الاتحاد والترقي تستخدم على نحوٍ منهجي الوضع العسكري الطارئ بسبب الحرب العالمية الأولى لتفعيل سياسة سكانية على المدى الطويل، تهدف إلى تعزيز العناصر التركية في الأناضول على حساب باقي السكان من أرمن(أصحاب الأرض الأصليين)، وسريان وآشوريين(الأقليات التي تعيش في المنطقة). هنا تم تحديد لوائح تخصيص حكومية لمستوطنات السكان، فكان للأرمن ما لا يزيد عن 10% من مساحات معينة فقط، وبهدفتنفيذ المخطّط، قام الضباط الأتراك بترحيل الأرمن دون ملابس أو طعام أو ماء كافٍ لهم عبر الصحراء تحت لهيب أشعة الشمس نهاراً ورعشة البرد القارس ليلاً.
هذا لم يكن كافياً لسد رمق جشع الغول،وانتشر وباء النهم أرجاء الأمة، حيث أن إعادة توزيع ممتلكات الأرمن كان دافعاً للكثير من الأشخاص العاديينعلى المشاركة في الهجوم على أخوتهم في الإنسانية.فحجبت الغيوم عين العدالة وتبرعمت الأرض شقائق النعمان تحمل كل منها قصة عذاب ومرار.
    ثم وعبر السنين، استمر الوحش بالإغارة ووصلت أنيابه إقليم أرتساخ أو ما يعرف بناكورني كاراباغ، حيث كان ومايزال يُشكل الأرمن هناك نحو 95 بالمئة من تعدادالسكان العام. إن للإقليم الذي كان له سلطة شرعية بين أيار1918 ونيسان 1920 حكاية تروي كيف لم يخمد عطش الموت وطال السكان الأرمن في عقر دارهم.
حيثقامت التشكيلات العسكرية في أذربيجان بالإضافة إلى التشكيلات الداعمة لها من (الأخ الأكبر) تركيا، بتنفيذ أعمال عنف وقتل ضد السكان الأرمن. فقط في شوشيعاصمة كاراباخ،سفكت مجازر آذار 1920 دماء أكثر من 20 ألف بريء طاهر، وخلفت عشرات الآلاف من المهجرين الأرمن.
مع مرور الوقت، شهدت منطقة كاراباغ مآسٍ وأحداث دامية مماثلة، ففي 26 شباط عام 1988 بدأت في سومغاييت مجازر وعمليات التهجير القسرية المُنظمة من قبل الدولة الأذرية، وعمّتالأعمال البربرية أرجاء ناخيتشيفان وشامخور وخانلار ومينكيتشاور وتاشكيسان وكانتساك وإيميشلي وشيكي وإسماعيلية وزاكاتالا وكيدابيك وكازاخ ومئات المناطق المأهولة الأخرى.
خلال تلك الأيام، أكثر من 200 ألف أرمني اختلط بتراب موطنه التاريخي أو أُجبر على الرحيل. وفي عام 1990 وصلت موجة الفظائع الى العاصمة باكو. واضطر الأرمن الذين كانوا يسكنون في المدينة أن يتركوا بيوتهم وممتلكاتهم والبحث عن ملاذفي أرمينيا وروسيا. في العام نفسه تم أيضاً ترحيل السكان الأرمن قسراً من هادروت وبيرتاتسور وشاهوميان وعشرات القرى في مناطق أخرى بغية توطين الأذريين. وكانت الحصيلة أنه في 1988-1990 تم إجلاء أكثر من 400 ألف أرمني.بعدئذٍ وردت أحداث خوجالو (خوجالي)، حيث كانت الجبهة القومية الأذربيجانية المنظم الحقيقي للمآساة، التي تسببت بمقتل المدنيين في 26 -27 شباط 1992 في محيط منطقة اغدام الخاضعة كلّياً آنذاك لسيطرة القوات الأذربيجانية.
الجدير بالذكر هنا ما كتبه الشاعر الأرمني باروير سيفاك في قصيدته عن الإبادة الأرمنية "نداء مأساوي" فقال:
هلّ الربيع قبيل أن يحل الصيف، وانهارت السماء
تناثر الثلج على رؤوسنا المكشوفة، تناثر الثلج مثل النار
إنه الربيع، يبعثر الثلج
أنهارنا الثائرة، تتدفق مثل الحمم، أصبح الدم ماءاً
وبات الوادي ضريح، والهاوية مقبرة
لقد دحرت المياه منازلنا، كل حجر صار شاهد قبر صامت   
كل منزل، موقد مصطلي، أصبحنا قوماَ مشرداَ
كان ظلماَ، حقاَ إنه ظلمٌ
البسي السواد يا ماري التي تفحم قلبك  
فإن أمة نبيلة عريقة، لم تمت وإنما فارقت الحياة
كان ربيعاً يبعثر الثلج، كان ربيعاً وهل الصيف
فزقزقت فراخ الحجل في الوادي
لكن الأرمني حرم من فلذة كبده
من حرارة تنوره العارم، من أبيه، أمه، وأحبته، من عشّه وعالمه  
كان ربيعاً يبعثر الثلج
آه... ما السبيل وكيف ننسى كوارث تلك الأيام  
لقد اخترقوا ومسحوا، وقطعوا السراء والضراء  
مزّقوا وعذّبوا، دمّروا وأحرقوا، أرهقوا الدم والدمع
صبغوا الوديان والتلال، أفنوا سماءً ساطعة
وذبحوا أمةً، شعب ٌبأكمله عاش بخبز كفافه
جعلوا منه ركاماً وفتات

واليوم لاتزال طواحين الهلاك تدور مجدداً، وكأن التاريخ لا يكل ولا يمل من سواد صفحات الغدر والطغيان، والمضحك المبكي أن البؤس يكنّى بالرغد، والخراب والدمار بربيع بلاد العُرب، فأي ربيع هذا ووطننا بات أرضه لا تزهر إلا أقحواناً مروياً بالدم والدمع، وأي ربيع يفرض الهجرة لا العودة، وأي ربيع يفني ولا يوّلد.
ألم يحن الوقت يا شقيقي أن تستيقظ؟ اكترث! فهذا الربيع جعل الأخ يقتل أخاه، والابن يذبح أمه، والطفل يترعرع بأحضان الرهبة والإرهاب، ألم تدق الساعة لنرفع الغشاوة عن أعيننا ونتكاتف، لنبصر بعقولنا قبل أعيينا، لندرك مدى الضغينة التي سيطرت على قلوبنا، لنعطي المجال للنرجس أن يمزق رداء الشتاء ويزهر، لتمتلئ بيوتنا ضحكات الأطفال بعيداً عن نحيب الثكالى، ويسود العلم والنور بدلاً من الجهل، وتفيض السماء بالحمام لا بالقنابل، ويعم الخير والوفاق لنمضي قدماً يداً بيد نحو مستقبل باهر.