الدبابات السورية والعراقية تطحن أحلام واشنطن وتمزق خرائط سايكس-بيكو

الدبابات السورية والعراقية تطحن أحلام واشنطن وتمزق خرائط سايكس-بيكو

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٣ يونيو ٢٠١٧

سمير الفزاع

يقيناً، تعتبر منطقة مهام "القيادة المركزية الأمريكية" –وقبلها مكتبي القاهرة ودلهي في الإمبراطورية البريطانية- الممتدة من باكستان إلى المغرب (من المحيط الهندي إلى الأطلسي) نقطة الصراع الأقسى في التاريخ، هكذا كانت ويبدو بأنها ستبقى كذلك. فيها حوض المتوسط، أكثر بقاع العالم إنتاجاً للحضارة، و"إراقة" للدماء. وفيها أكثف وأهم الممرات المائية والطرق البريّة، وفيها النفط الذي لا "ينضب"، وآبار الغاز التي لا قعر لها، وفيها الحوض اللاهوتي الأكبر عالميّاً والذي ينتمي له اغلب المتدينون في العالم، وعلى خرائطها رسمت حدود أول كيان أجنبي لا جذور فعلية له في المنطقة "إسرائيل"، وعلى شطآنه وكثبان صحاريه طاقة المستقبل المتجددة وبلا حدود، وتنوع شعوب هذه الأرض بلا نهاية بين إثنيات وطوائف وأقوام لا حصر لها، لتكون نعمة لا تقدر بثمن حيناً ونقمة يصعب "تحملها" أحياناً أخرى... في كل مرحلة من تاريخ البشرية، ظهر سبب أو أكثر، "يغري" الملوك والقياصرة والإمبراطوريات للسيطرة على هذا "الهلال الواسع"، وتحديداً دُرته الممتدة من جبال طوروس وحتى جبال صنعاء، ومن رحاب مكة إلى شواطئ الإسكندرية.

كان اللعب على هذا التنوع الهائل واحدة من أهم العناصر التي استخدمتها كل موجات "التوسع" الداخلية والخارجية على حدّ سواء، وغالباً ما نجحت تلك الألاعيب في تمكين من يمارسها من بلوغ جلّ أهدافهم إن لم يكن جميعها... خصوصاً، إذا إنهار الوعي الجمعي، وفُقدت القيادة الحكيمة المقاومة، وغاب المنافس القوي-الإقليمي أو الدولي- للطرف الطامح للتوسع والسيطرة... . يمكن التدليل بأمثلة معاصرة على هذه المعادلة الحاكمة بما يجري في سورية اليوم: ما هي المعادلات التي حمت سورية؟ وكيف قلبت سورية المشهد على رأس واشنطن وحلفائها؟ وما هو دور ومستقبل النزعة الانفصالية الكردية؟... تلك التساؤلات التي سأحاول مقاربتها في هذه المقالة.

* ثلاثة معادلات تؤرق واشنطن:

مؤخراً، ظهر في الميدان السوري ثلاثة متغيرات كبرى، ذات طابع سياسي-عسكري-أمني، وجهت طعنة قاتلة للمشروع الصهيو-أمريكي:

1-"التعاون" التركي في لجم الجماعات الارهابية المرابطة بريفي حلب وحماه، خصوصاً بعد هزيمتها الإستراتيجية في حلب والباب ومؤخراً في ريف حماه، وخوفها من الرهان الأمريكي على المليشيات الكردية.
2-الصمود الأسطوري للجيش العربي السوري، والدعم الثابت وعلى كافة الصعد من قبل الحلفاء، والتحديث الواسع الذي طال الكثير من قطاعات الجيش وأسلحته وتجهيزاته... .
3- تطهير مساحات شاسعة وهامة من أدوات الغزو الإرهابية سواء بالإنتصارات العسكرية أو بالمصالحات والتسويات، وتعزيز الجيش بدفعات جديدة من الضباط والجنود... سمح بتوفير فائض من القوة قادر على فتح جبهات جديدة، وشنّ هجمات جبهيّة واسعة في غير منطقة.
بدأ الهجوم المعاكس الشامل لحظة توحيد حلب، والتقدم نحو الريف الشرقي للمدينة، ولكن صار ملحوظاً بعد فشل الغزوة الأخيرة في جوبر وريف حماه، والقصف الأمريكي لمطار الشعيرات. هدأ ريف حماه، وغوطة دمشق الشرقية بعد الضربات والخسائر الهائلة التي تكبدوها... لتبدأ معركة تحرير البادية السورية وفك الحصار عن دير الزور. تدفقت القوات من مختلف الجبهات لتحقيق الهدف المنشود، وتحديداً إلى مشارف مطار "الجراح" في ريف حلب الشرقي، وإلى تدمر، والى ريف السويداء الشمالي-الشرقي، ومن هناك تعددت رؤوس الهجوم في كل جبهة لتشتيت العدو، وتحقيق الأهداف المنتظرة بأسرع الطرق وأقلها كلفة... . هنا ظهرت معضلة الغزو الأمريكي القديمة الجديدة، غياب إمكانيات القدرة على حشد قواها الذاتية للإنتصار بمنازلة القرن. راهنت واشنطن بكل قوتها على عنصرين أساسيين بعد "تعذر" التدخل الجيش التركي الذي حُوصر خلف "الباب": قوات عشائرية تدربها في الأردن والمليشيات الكردية. إشتغلت واشنطن على مستويات ثلاث أمام هذه المعضلة:
1- إحلال "قوات العشائر" مكان داعش في البادية السورية تحت "الحماية" الأمريكية، لمنع تقدم الجيش العربي السوري وحلفائه تجاهها.
2-دفع مجاميع داعش المنسحبة من البادية نحو مواقع الجيش العربي السوري وحلفائه، لتعطيل تقدمه، وتكبيده الخسائر.
3-دفع المليشيات الكردية لقطع الطريق على تقدم الجيش العربي السوري وحلفائه نحو الرقة ودير الزور أولاً، وتسهيل إنتقال أرتال عصابات داعش من الرقة ومحيطها نحو مسكنه والسخنه ودير الزور حصراً ثانياً، ومحاولة التوسع غرباً لملاقاة "قوات العشائر" القادمة من التنف، للسيطرة على مدينة البوكمال، ومنع أي تواصل بين العراق وسورية ثالثاً.
ولأن سورية وحلفائها يدركون مأزق واشنطن، تجنبوا الصدام المباشر معها ما أمكن، ورسموا المعادلة الثلاثية الأبعاد بالنار والدماء:
1-مواصلة تقدم القوات القادمة من محيط مسكنه نحو الحدود الإدارية للرقة والضغط لتطهير الجيب الداعشي الممتد من مسكنه حتى القريتين وصولاً للسخنه... للإطباق على المليشيات الكردية وداعش، ودفعهم للإصطدام عنوة.
2-تحويل معسكر القوات الغربية وقوات العشائر في التنف إلى جيب معزول بلا أي قيمة عسكرية أو سياسية، وفتح الحدود السورية-العراقية شمال-شرق معبر التنف.
3- فتح معركة مدينة درعا، لتحرير المدينة، والضغط أكثر على أدوات الغزو في جنوب وغرب سورية لتشتيت قواتها، وإستغلال تآكل إمكانات مشغليهم وتناحرهم فيما بينهم.

* الرهان الأمريكي في مئوية سايكس-بيكو؛ إعادة إنتاج الخرائط:

في محضر لمجلس الأمن القومي الأمريكي (14-15/9/2011) يقول وزير الحرب "رامسفيلد":"كلما رفعنا "بيرسكوب" (منظار الغواصة) فوق سطح الماء، وأدرنا البصر في عرض البحر حولنا، لا نجد هدفاً أنسب من العراق". دققوا جيداً بمصطلحات الرجل: غواصة، بحر، هدف... وتذكروا مثلاً، أهميّة هذه المفردات في العقيدة العسكرية-السياسية-الشعبية الأمريكية... ومحوريتها في "نشأة" أمريكا ذاتها والتي بدأت فعلياً عبر موجات من السفن التي حملت على ظهرها نزلاء سجون اسبانيا والبرتغال وبريطانيا وفرنسا... ليستوطنوا "أمريكا" بالقوة... ويضيف رامسفيلد للتأكيد على "رؤيته":

1-الدول المساندة "للإرهاب" هي الأهداف الأولى بالعقاب، ويمكن للولايات المتحدة أن تعتمد في جهدها على تحالف دولي وإقليمي يتعاون أطرافه معها بقواتهم وأموالهم وقواعدهم ومخابراتهم.
2-هناك ذريعة مشروعة للحرب على العراق تتمثل بأسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها هذا البلد، ويمكن عن طريقه أن تصل هذه الأسلحة لأيدي الإرهابيين.
3-العراق في قلب المنطقة الحيوية للمصالح الأمريكية (الموقع،النفط،إسرائيل)، وهو من موقعه هذا يهدد أصدقاء تقليديين لأمريكا، وكذلك فهو بكل المعايير يستحق وصف "الدولة المارقة".
4-في العراق أهدافاً كبيرة يمكن ضربها بعمليات مبهرة، كما أن في العراق جوائز هائلة يمكن الإستيلاء عليها بأقل تضحيات متصورة.
تلك كانت رؤية رامسفيلد وإدارة المحافظون الجدد للإمساك بالمنطقة من جهة، والإنتقال إلى عصر الإمبراطورية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي من جهة ثانية، والقضاء تماما على نقاط الرفض والمقاومة في العالم ومنطقتنا تحديداً، ثالثاً، وصولاً لفرض رؤيتها السياسية-الإقتصادية-الثقافية-الأمنية على كوكبنا بكليته... لتتحقق "نبوءة" بريجينسكي التي أطلقها في أوج الحرب العراقية-الإيرانية حول إشعال حرب جديدة على متن هذه الحرب الطاحنة لإعادة رسم خرائط المنطقة بعد أن إستنفذت خرائط سايكس-بيكو أنفاسها.
تعرضت هذه الإستراتيجية لجملة من الإخفاقات والهزائم كان أخطرها وأقساها في منطقتنا العربية، وتحديداً في العراق وسورية ولبنان وفلسطين... وما نشهده اليوم مع إدارة ترامب من تخبط وتناقضات وصراعات داخلية فاضحة... نتاج لهذه الهزائم والإخفاقات، وبسبب تداعي المشروع الإمبراطوري، وبروز قوى إقليمية ودولية تناهض الوجود الأمريكي، بالإضافة لإرهاصات تفكك المعسكر الغربي، وتآكل القوى "العربية" والإقليمية المرتبطة بالمشروع الغربي... ذلك وغيره، يتجلّى بوضوح بالحرب الدائرة في سورية وعليها... حيث سقطت كل مسميات وأدوات الغزو والسيطرة من تنسيقايات وناشطون وجيش حرّ... وحتى داعش، لتظهر آخر الأدوات في إستراتيجية الحروب اللامتماثلة: "المكون الكردي"... في لحظة هروب إلى الإمام وخيار الحافة، بالرغم من كل المحاذير والمخاطر التي قد تفجر نسق سايكس-بيكو الذي ضبط حركة وتفاعلات المنطقة لقرن من الزمن، وضمنهم كيانات حلفاء واشنطن والغرب وأدواتها.

ختاماً:

أكثر ما يقلق واشنطن مما يجري الآن على الحدود السورية العراقية والبادية السورية، خوفها من تكرار المشهد في شمال-شرق، ثم جنوب-غرب سورية، فإذا ما تقدم الجيش العربي السوري نحو تلك المدن والبلدات... هل ستكون قادرة هي وأدواتها الإنفصالية من مليشيات عربية وكردية على منع الجيش العربي السوري وحلفائه من التقدم؟ إذا ما استهدفت القوات المتقدمة هل سيكون هناك ردّ؟ ما هو حجم الردّ وحدوده في جغرافيا المنطقة والعالم؟هل سيبقى موقف المكون الكردي والعربي في تلك المنطقة مخطوفاً بمعظمه كما هو اليوم خصوصاً مع التصرفات المليشيوية التي يمارسها أكراد قنديل والبرزاني؟ ما هي تداعيات هذا التقدم غرباً نحو الجولان، وربما ما بعدها؟... صحيح نحن نقفل صفحة حاسمة في الصراع، ولكننا على أبواب فتح صفحة جديدة، خصوصاً إذا قررت واشنطن وأدواتها الإستمرار في غزوها وتصعيده... لكن مع فارق مهم وحاسم هذه المرة: بغداد ودمشق وبقيّة الحلفاء في خندق واحد.