هذا الخليج «دمّلة» هذا الجسد .. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

هذا الخليج «دمّلة» هذا الجسد .. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٣ يونيو ٢٠١٧



في شباط من عام 1945 حصل كل من المتحالفين الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت ومؤسس المملكة العربية السعودية وأول ملوكها عبد العزيز آل سعود، على ما أراداه من تحالفهما المعلن، فوضع الأول يديه على النفط، وضمن الثاني الحصول على تعهد بحماية ودعم نظامه واستمراره.
كان ذلك الاتفاق هو الذي حدد كاريزما الدور الإقليمي السعودي، وفي خلال المرحلة ما بين 1945- 1970 لعبت الرياض أدواراً سياسية تدميرية في المنطقة بدءاً من دعمها المضمر للعدوان الثلاثي على مصر 1956 مروراً بإسقاط دولة الوحدة أيلول 1961 ومحاربة عبد الناصر في اليمن ما بين 1962-1970، والتي خسرت فيها مصر مئة ألف جندي، فكانت المقدمة لهزيمة حزيران 1967 وصولا إلى التحريض على هذه الحرب الأخيرة.
بات من الواجب اليوم القول إن الرياض شكلت مظلة إقليمية وعربية لذلك العدوان، ويورد الكاتب حمدان حمدان في كتابه «عقود من الخيبات» وثيقة صادرة عن مجلس الوزراء السعودي 26 تشرين الأول 1966 وهي تحمل الرقم 342 أما فحواها فهو مجموعة من المطالب الموجهة إلى رئيس الولايات المتحدة الأسبق لندون جونسون وأبرزها حث إسرائيل على توجيه ضربة ساحقة لكل من مصر وسورية وإسقاط نظاميهما ومنها أيضاً حث إسرائيل على احتلال أجزاء منهما لكي «لا يستطيع أحد منهما رفع رأسه بعد الآن».
بدأت منطقة الخليج تأخذ طابعا مغايرا ولو شكليا منذ مطلع عام 1971 الذي شهد حصول إماراته الأربع على استقلالها عن بريطانيا وعلى الرغم من أن تلك الدويلات قد ظلت مغمورة على امتداد عقد من الزمن وفيه لم تكن تمثل أكثر من رقم يتراصف وراء الشقيقة الكبرى إلا أن ثمة تناقضاً كان ينمو ويتصاعد بوضوح انطلاقا من تناقض المصالح فيما بين القوى المسيطرة على المال والنفط في الخارج، وهو ما دفع بالرياض نحو محاولة تأطير تلك التناقضات أو إيجاد سقوف لها لا تتجاوزها وتلك هي المهمة التي أنيطت بمجلس التعاون الخليجي الذي تأسس عام 1981، واليوم وبعد مرور 43 سنة على حرب تشرين 1973، لا تزال كتبنا ومراجعنا ومناهجنا تذكر أن الملك فيصل بن عبد العزيز كان قد قام بحظر للنفط عن الغرب إبان تلك الحرب، إلا أن ذلك لا يمثل الحقيقة فحظر النفط كان بقرار أميركي صارم.
عندما فشلت الرياض في احتواء قاهرة أنور السادات الذي فضل التمرد والذهاب بعيدا عن المرامي السعودية عبر اتفاقيات كامب ديفيد 1979 التي خططت لها الرياض ودعمتها ليطير عصفورها الذي دربته على الطيران بعيدا عنها وهو ما مثل بالنسبة إلى الرياض خسارة حسابية فادحة، كان من الصعب محاولة استعادتها إلا أنها جربت أن تفعل إبان انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية شباط 1979 عبر دفع ودعم نظام صدام حسين لإعلان الحرب على طهران التي استمرت لثماني سنوات متواصلة 1980-1988 حيث سيقول بندر بن سلطان لأحد مسؤولي السفارة الأميركية في الرياض عشية الغزو الأميركي للعراق عام 2003 إن بلاده كانت قد دعمت نظام صدام حسين بـ200 مليار دولار ولو أن الأمر تطلب أكثر من ذلك لما ترددنا في تلبية تلك المطالب.
كان دعم الرياض المطلق لبغداد صدام حسين يسير بضوء أخضر أميركي ولربما كان زخم هذا الأخير مرتبطاً بتجاوب الرياض مع تطبيقات النظرية التي خرج بها زبينغو بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس جيمي كارتر 1976 – 1980 لمواجهة السوفييت في أفغانستان والتي تقوم على ثلاث ركائز: إشراف وتخطيط أميركيان، تمويل سعودي، تجييش فقهي وهابي، لضمان التحاق الأتباع بما سمي فيما بعد ظاهرة الأفغان العرب التي ولد تنظيم القاعدة في رحمها عام 1986 على يد أسامة بن لادن المقرب من العرش السعودي نفسه، وعندما غزت إسرائيل لبنان للمرة الثانية في حزيران 1982 كانت القوات الإسرائيلية قد وصلت إلى بيروت وحاصرتها وفي الغضون عملت الرياض على إنعاش المراجع الإسلامية الاستسلامية الرجعية مثل صائب سلام، وجدير بالذكر اليوم أن نقول إن الجزء الذي استسلم من بيروت أمام الغزو الإسرائيلي هو الذي كان الناس فيه قد سلموا أمرهم إلى صائب سلام، الذي كان مكلفاً سعودياً بتهيئة الحضن الإسلامي «السني» لبشير الجميل فيما هو ذاهب إليه، والذي اتضح فيما بعد عبر اتفاق 17 أيار 1983.
ما سبق يؤكد أن آل سعود كانوا مدركين جيداً لحقيقة أن ثبات واستمرار نظامهم إنما يتوقف على دعم ذلك النوع من القوى وإيصالها إلى السلطة، وبمعنى آخر إن أهم دواعي وجوده هو إيقاف عقارب الزمن.
استولدت حرب الخليج الأولى حربا ثانية عندما قام صدام حسين بغزو الكويت آب 1990، كان ارتعاد الفرائص السعودية ناجماً عن شعور مفاده أن فائض القوة المتراكم لدى صدام حسين سوف يدفع بهذا الأخير نحو هدفه التالي الذي سيكون في الرياض بالتأكيد وهو ما يفسر السعار السعودي المحموم لعاصفة الصحراء في كانون ثاني وشباط 1991 حيث يقول جورج بوش الأب في مذكراته إن الرياض كانت قد دفعت سبعين بالمئة من تكاليفها.
في غضون تلك الصراعات المحتدمة شهد العالم حدثا بالغ الأهمية وهو ما تمثل بالتوقيع على اتفاقية كيوتو حزيران 1992 التي تعهد الأوروبيون بموجبها باستخدام الغاز كبديل للنفط للحد من تلوث المناخ العالمي، وحركت تراكمات كيوتو الدوحة، فبدأت تمردها الخجول في مواجهة الرياض إبان توحيد شطري اليمن أيار 1990 إلا أن التمرد أضحى علنيا خلال الحرب اليمنية عام 1994 وإن كانت الدوحة قد أدركت وجوب استكمال هذا الأخير لشروطه، وفي هذا السياق كان الإعلان عن تأسيس قناة «الجزيرة» في تشرين الثاني 1996 وجاء في أعقاب انقلاب حمد بن خليفة على أبيه في حزيران 1995 حيث ستؤسس المحاولة الفاشلة للرباعي المصري السعودي الأردني الإماراتي لإعادة الوضع في الدوحة إلى سابق عهده، بذور شقاق أخذت بالتنامي في ظل تباعد المصالح وتباعد الإستراتيجيات ولربما من المفيد هنا أن نذكر أن الملك السعودي الحالي سلمان بن عبد العزيز هو الذي كان مشرفا على تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة في شباط 1996.
وجدت الرياض، وكذا الدوحة، نفسيهما منخرطتين في مخطط كان يعد للمنطقة على نار هادئة فاستخراج الغاز يحتاج إلى سلام واستقرار، والسلام وفق قرارات الشرعية الدولية سيعني زوال إسرائيل، الدور والتكوين، ولذا كان القرار بوجوب تقسيم المنطقة إلى كيانات طائفية عاجزة عن أن تشكل تهديدا للأمن الإسرائيلي، وفي الآن ذاته اكتشفت الرياض في أعقاب غزو الكويت أن الحماية الخارجية وحدها لا تكفي مهما بلغ حجمها أو حدودها وعليه كان لابد من إيجاد مبررات داخلية لحماية النظام، الأمر الذي يفسر المسعى السعودي إلى خلق تراصفات مذهبية في المنطقة بدت واضحة منذ الاندفاعة الخليجية نحو تركيا التي قال رئيس وزرائها السابق سليمان ديمريل في أعقاب جولة خليجية قام بها عام 1993: «إن القرن القادم سيكون قرنا تركيا بامتياز»، في مؤشر يؤكد مدى الارتماء الخليجي في الحضن التركي حتى باتت العلاقة التركية الخليجية تمثل عنصر قوة ذاتياً للأتراك مثل السياحة في إسطنبول مثلا.
عندما أفاق العالم على أحداث أيلول 2001 تلمست الرياض رأسها، وتراكمات هذه الأحداث على الرياض شجعت الدوحة على التحرش بها أو التجاسر على «هيبتها» وهو ما تبدى بوضوح عبر ذراع «الجزيرة» الإعلامية الذي أصاب الأمير القطري كما يبدو بجنون العظمة، وهو ما يؤكده جواب حمد بن خليفة للرئيس المصري حسني مبارك الذي قال في سياق حديث طويل إنه «مسؤول عن 90 مليون نسمة» حينها رد حمد بالقول إنه «مسؤول عن 300 مليون نسمة» هم تعداد سكان البلدان العربية.
وتأتي الأزمة الخليجية الراهنة استنساخا لمثيلتها السابقة لكن على أكبر بما لا يقاس أما جذورها فهي تنبع من تلاقي المصالح الأميركية والسعودية في اللحظة الراهنة تجاه الدوحة، فواشنطن تريد إيجاد جاستا قطري تحصل من خلاله على ما تريده من مال أسوة بالشقيقة الكبرى، أما السعودية فهي تريد نزع مخالب قطر وإجبارها على التراصف وراءها مرة واحدة وإلى الأبد، لكن التعنت القطري تجاه مطالب الرياض ناجم بالدرجة الأولى عن رؤية مفادها أن عملية «الكنس» التي قام بها ترامب للخزائن السعودية سوف تكون الرادع الأول والأكبر الذي سيجبر الرياض على التهدئة مهما بلغ الصراخ، إذ لطالما لعب المال السعودي وعلى امتداد سبعة عقود منصرمة دور اللاصق السحري للتحالفات التي أقامتها هذي الأخيرة.
وعليه فإن استقراء المشهد يؤكد أن لا فصل عسكرياً فيه إلا أنه سيفضي إلى إعادة الخليج إلى زمن الوصاية المباشرة عليه، أما تأثيرات الأزمة الخليجية على الأزمة السورية فهي تبدو في أغلبيتها إيجابية حيث سيظهر التزام الأتراك بقطر وجود عزم لديهم بالتصدي لمشروع الدولة الكردية في كل من سورية والعراق ولو اضطر الأمر إلى مواجهة مع واشنطن تبدو قادمة لا محالة.