خطر داعش سيبقى… حتى بعد تحرير الأرض

خطر داعش سيبقى… حتى بعد تحرير الأرض

تحليل وآراء

السبت، ١٠ يونيو ٢٠١٧

على الرغم من العمليات العسكرية الدائرة في سورية والعراق والتي تقضم يومياً أراضٍ شاسعة من تنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش)، إلا أن الأخير استطاع ضرْب أهداف بعيدة في العالم الإسلامي وفي أوروبا وآسيا. هذا إن دلّ على شيء فعلى مواجهة العالم لتنظيمٍ فكري عقائدي يُلهِب مشاعر الشباب والرجال ويخترق الحدود الجغرافية حتى ولو خسر الأرض، وذلك لأسباب متعدّدة لا يريد العالم الالتفات إليها لأنها تجعله شريكاً أساسياً لهذا الانتشار الفكري الذي يرتدّ على الجميع من دون استثناء.

وتشير إحصاءاتٌ مقتبسة من تخميناتٍ غير رسمية الى ان هناك نحو 40000 الى 50000 رجل وامرأة التحقوا بـ«داعش»، ومنهم نحو 5000 إلى 6000 حضروا من أوروبا، وأكثر من 10000 من روسيا والقوقاز والآلاف من المغرب العربي والشرق الأوسط وآسيا وأستراليا وحتى من جزر المالديف. هذا عدا عن مقاتلين بأعداد هائلة التحقوا به من العراق (بلد المهد) وسورية (بلد الامتداد الجغرافي).

وتُعتبر هذه الأعداد قفزةً غير مسبوقة في التاريخ المعاصر للاستقطاب والتجنيد لتنظيمٍ إسلامي يحمل عقيدةً معيّنة وينادي بدولةٍ إسلامية من الشرق إلى الغرب. ففي حرب أفغانستان مثلاً، أوائل الثمانينات من القرن الماضي، التحق عدد قليل جداً من المهاجرين في صفوف المجاهدين لم يتجاوزوا الـ 250 إلى 300 مقاتل من جنسيات مختلفة. الا أن هذه الطفرة الهائلة والقفزة الجبّارة الاستقطابية حصلت لأسباب لم تتوافر أيام «الأفغان العرب» والمهاجرين في عهد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان.

والأسباب الأولية الواضحة التي ساهمت في تشجيع هذه الظاهرة مردّها أولاً للانترنت الذي سمح بالتواصل الفوري المجّاني بين الشعوب وكسر الحدود. والسبب الثاني صدقية الإعلام وعدم الالتزام بنقل الوقائع من دون التسييس المتفشي لدى الصحافة الغربية والمحلّلين. أما السبب الثالث والأهم فيتعلق باحتلال دول شرق أوسطية (حرب العراق العام 2003 وحرب ليبيا وحرب سورية) والتدخل الغربي بجنوده وسياسةِ تغيير الأنظمة التي اتبعها الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش الذي يسير على نفس خطاه الرئيس الحالي دونالد ترامب.

أما بالنسبة للانترنت، فقد استيقظ العالم متأخراً على استغلال أبواب التواصل الاجتماعي من «داعش» (والقاعدة ايضاً) لينشر أعماله القتالية وبياناته وأفكاره، ليكون الانترنت أقوى أداة للاستقطاب ولاستعطاف الشباب والعوائل، ليس فقط للالتحاق بـ «الدولة الاسلامية»، بل ليُظهِر «داعش» ما يتعرّض له «المسلمون من ظلمٍ وتنكيل وان الأوان قد حان للانتفاضة الاسلامية ولإرجاع حكم الاسلام الى ما كان عليه من مجدٍ قبل اكثر من 1400 سنة».

* التنظيم استفاد من خبرات هائلة انضمّت الى صفوفه على معرفةٍ واختصاص بالبروباغندا.

واستفاد «داعش» من خبرات هائلة انضمّت الى صفوفه على معرفةٍ واختصاص بالبروباغندا، فدمجتْ الألعاب الالكترونية بصورِ معارك وأخرى تُظهِر «الحياة الراغدة والطمأنينة» تحت ظلّ «دولته»، ليخاطب أحلام الشباب العاطل عن العمل والمتعلّم، ويخاطب أولئك الذين فقدوا حلمهم في تحقيق كيانٍ لهم في الغرب، وآخرين أكاديميين متخصصين وجدوا من خلال براعة «داعش» الاعلامية السبب الكافي للالتحاق بهذا التنظيم «ليفعلوا شيئاً ما» أو يساهموا بالنهضة الاسلامية التي تعرّضت في الغرب ومن قبل الغرب للاهتزاز.

وساهمتْ غزارة المواد الإعلامية المنبثقة عن «داعش» من خلال الانترنت في إيصال أفكاره ورسائله الى أماكن لم يطأها أيّ فكرٍ قَبله. وقد استخدم التنظيم القتْل الحقيقي المباشر وتغنّى بطرق القتل المختلفة التي لعبتْ أيضاً دوراً بإظهار «قوّته على أعدائه» وقدرته في الإمساك بالرقاب وضرْبها. وهكذا أصبح لـ«داعش» مجلّته وإذاعته وتلفزيونه (عبر التواصل الاجتماعي) والأفلام التي تبثّ أعماله، ليجد الكثير من القابعين في منازلهم أنهم جزء من هذه «الدولة» وأنهم يستطيعون حتى أن يكونوا أفراداً فيها من دون السفر الى العراق او سورية بل بتبني أفكاره وتعليماته والقيام بأعمال إرهابية حيثما يتواجدون أو يعيشون.

واستطاع «داعش» ضمّ العدد الكبير من أنصاره في بلاد متعدّدة من دون أن تطأ أقدامهم «دولة الخلافة» التي زعم «داعش» أنه يمثّلها. ولم تجمع هؤلاء العقيدة الاسلامية لأن عدداً كبيراً منهم لا ولم يلتزم بالإسلام ولا يعرف قواعده ومتطلباته. والكثير من هؤلاء احتاجوا – وتحديداً الذين استطاعوا الوصول الى العراق وسورية – الى دوراتٍ دينية مكثفة. وقد جُنّد الكثير من هؤلاء برغبتهم الشخصية أو متأثّرين بأصدقاء أو بأفراد من عائلاتهم فظهرت موجة «الذئاب المنفردة» الذين جُنّدوا في أماكن إقامتهم من خلال الانترنت حتى ولو كان أكثرهم ضعيف الإيمان وقد وُلدوا وترعرعوا في الغرب.

إلا ان الأجهزة الامنية التفتت فقط أخيراً إلى قوة الانترنت وخطره لتبدأ مشوار المراقبة بعد فوات الأوان.

الإعلام ودوره
كان للإعلام وطريقة معالجته الحرب الدائرة في العراق وسورية دوراً مدمّراً للمجتمعات ومشجّعاً «للذئاب المنفردة» وقافلة المنضمّين الى التنظيمات الإسلامية المتشددة. وقد ساعد هذا الإعلام في تضليل الشباب من خلال القبول بالأخبار الكاذبة وعدم الالتفات إلى مسؤولية المهنة التي تحتّم نقل الأخبار كما هي من دون التأثر بسياسة الوسيلة الإعلامية أو الدولة التي تتواجد فيها وسائل الاعلام المكتوبة والمرئية. وبسبب رغبة دول كثيرة بإزاحة الرئيس بشار الأسد وتغيير النظام، انصاع الإعلام لهذه الرغبات وأصبح الخبر المنشور على مواقع التواصل الاجتماعي «حقيقة» اعتمدتْها غالبية الصحافة لتُظهِر بشاعة النظام السوري غير آبهةٍ بمعايير الصدقية التي تجاوزتْها من خلال البروباغندا التي واكبتْ فكرة تغيير النظام. ولم تتأخر هذه الماكينة في الانسياق وراء الدعاية التي اتّبعها «داعش» (وحتى تنظيم القاعدة الذي أشيرَ اليه كمعارضة سورية على الرغم من أن أقلّ من نصف مكوّنه هم من المهاجرين الاجانب) لتشعل النفوس في الغرب وتؤكد ما ينشره «داعش» من تعرض «الإسلام والمسلمين للقتل الممنْهج».

السياسة الخارجية وتغيير الأنظمة
هذه النقطة بالذات هي لبّ المشكلة التي يتعمّد المحلّلون والاعلام والخبراء المرور عليها مرور الكرام أو حتى إخفاءها، حتى ولو لم يتردّد الرئيس الاميركي السابق، باراك اوباما، أيام حكمه بالقول ان «داعش هو نتيجة الاحتلال الاميركي للعراق العام 2003». وقد اعتمد الغرب على «الاسلاموفوبيا» وتحليل ظاهرة الذئاب المنفردة ودرْس أسباب الانضمام الهائل لتنظيم «داعش» من دون ذكر السبب الرئيسي المتمثل في معالجة القادة الغربيين لقضايا الشرق الأوسط ولا سيما في العراق وسورية.

نعم إن الأسباب التي ساهمت بتضخيم «داعش» متعددة ومعقّدة، إلا أن القتل باسم الاسلام وقع بعدما قُتل المسلمون في عقر دارهم وغزو بلادهم تحت اسم تغيير نظام صدّام حسين أو إزاحة معمر القذافي أو رحيل بشار الأسد. وفي كل الأحوال، كانت الولايات المتحدة موجودة على الأرض بجنودها، تَبني قواعد عسكرية لها وتحتلّ الأرض تاركةً وراءها معارك داخلية وتنظيماتٍ إرهابية. وها هي اليوم – لم تتعلم من دروس التاريخ – تنشئ قواعد لها في سورية وتتهيأ لاحتلال الأرض التي تواجد عليها «داعش» الذي لم ولن يرحل قريباً حتى ولو خسر الأرض.

في غياب العدل وفي ازدهار الحروب، تبدو هذه الايديولوجية متماسِكة وقوية، قادرة على الاستقطاب والنهوض من جديد. فهذه التنظيمات مؤلّفة من أشخاص أذكياء ومتعلّمين يستطيعون التأقلم مع التدابير الأمنية التي تُتخذ ضد أساليبهم ليطوّروا أساليب اخرى لإبقاء الصراع دائماً ما دامت السياسات الغربية على حالها.

فكلّ يوم يَحدث في الشرق الاوسط هجوم مثل هجوم لندن وايران وفرنسا وغيرها. وكل يوم يُقتل العشرات في العراق وسورية. وقد أظهر «داعش» قدرته على التخطيط والتنفيذ. فإذا أخذنا العملية الأخيرة في إيران، نجد أن التنظيم كان وراءها مباشرةً، وقد استطاع المهاجمون درْس نقاط الضعف والدخول الى البرلمان وبثّ فيديو مباشر من داخل مكان العملية عبر إعلام «داعش» فيما كان المهاجمون لا يزالون بالداخل، وهو ما دلّ على تخطيطٍ وتنسيق متزامن مثل عملية «باتاكلان» في فرنسا او عملية بروكسيل. فالذئاب المنفردة تستطيع – مثلما فعلت في لندن وقبلها في نيس – أن تتسبّب بالقتل كما الهجمات المنسّقة، وتنشر الرعب والذعر وتجعل الإعلام يتكلم عنها. فهدف «داعش» اليوم هو إبقاء اسم تنظيمه على كل لسان وأن يتحدث عنه الإعلام ويتسبب بالعدد الأكبر من القتلى. وإذا لم تحصل إعادة نظر بالسياسة الخارجية لا سيما في ما يتعلق بالولايات المتحدة، فلا يبقى – ومعها المحلّلون الاميركيون – رأسها تحت التراب كالنعامة، فإن داعش سيضرب من جديد وسيستمرّ الى ما لا نهاية.

وإذا استطاع «داعش» استقطاب عشرات الآلاف بوقت قصيرٍ نسبياً وجذَب هؤلاء إليه جسدياً وفكرياً، فإن «داعش القادم» سيكون أكثر ضراوة وخطراً على المجتمعات اذا لم تتغيّر السياسات الخارجية وتكفّ الأيادي عن تغيير الأنظمة في الشرق الأوسط.