دور المؤسسة الدينية في صياغة إعلام هادف.. بقلم: د.عبد السلام راجح

دور المؤسسة الدينية في صياغة إعلام هادف.. بقلم: د.عبد السلام راجح

تحليل وآراء

الأربعاء، ٣١ مايو ٢٠١٧

تمتعت المؤسسة الدينية منذ فجر تاريخها برصيد هائل من المؤثرات التي تنفذ إلى قلوب الناس دون كثير عناء بعد أن كتب الله لرسله القبول في الأرض باعتبارهم رسل الإله سبحانه مؤيدين بالوحي السماوي ومدعومين بالمعجزات الإلهية، ما سمح لدعوتهم بالانتشار بين المبلغين بالدعوة سيما وأن تلك الدعوات النبوية جاءت في مقابل جهالات حكمت عقول الناس قروناً متعاقبة، وظلم من الإنسان لأخيه الإنسان أسس لطبقية تنافي الفطر السليمة والعقول الرشيدة ودواعي الإنسانية الجامعة، فكانت أداة كل تلك المعاني السامية إعلاماً سماوياً مثلته كتب السماء من عند العليم الخبير، توراة وإنجيل وقرآن، عنوانها وحي الله العادل، تترجمها نصوص عادلة، بعث بها رسل إخوة يتفقون في أصول عامة جامعة ولم تكن الفروع لتفرق بين من التقى على الأصول.
إن مجتمعنا المؤمن – أخص مجتمعنا السوري – ارتبط ارتباطاً وثيقاً بتلك الصيغ الإيمانية الدينية التي مثلتها كتب السماء بدعوتهادائماً إلى وحدة الوجود الإنساني، وانصهار أتباع الشرائع السماوية في بوتقة الشرائع التي نصص الإله سبحانه:
(لا نفرق بين أحد من رسله)
لقد تبدت أهمية تلك الصيغ التي مثلتها دعوة الأنبياء عليهم السلام وهم يبلغون عن ربهم من خلال منهجين اثنين:
الأول: وحي السماء الذي اختصهم بحمل رسالات الإيمان والعلم والعدالة الاجتماعية والعمل ، فعملوا على تبليغه بأمانة وصدق وشرعوا لأجل ذلك تشريعات خالدة تترجم تلك الرسالات سلوكاً وتصديقاً.
الثاني: القدوة الحسنة التي عاشوها عملاً وأسوة فأضافت على أقوالهم أعمالاً وأفعالاً جعلت منهم مضرب مثل يقتدي بهم الناس ويهتدون بسلوكياتهم وتصرفاتهم.
إن نقل المبادئ من لدن رسل الله وشرحها شرحاً واضحاً وصحيحاً وثابتاً بهدف تنوير الناس وتثقيفهم ومدهم بالمعلومات الصحيحة بموضوعية تعبر عن مواءمة هذه المبادئ للزمان والمكان، في مواكبة منطقية لهما، بمراعاة أدواتهما لهو أمثل أسلوب إعلامي هادف يراعي في خطابه الأفهام المتفاوتة لمتلقي وحي السماء وما أسلوب التدرج في الأحكام الذي وضحته مواطن متعددة في القرآن إلا منهج إعلامي متميز يقصد إلى مخاطبة الفطرة والقلوب والعقول خطاباً عنوانه الموضوعية والمنطقية، وأي إعلام أبلغ من ذلك الذي لم يخرج عن معهود الناس فضلاً عن أنه لم ينكر عليهم مألوفهم فعالجه بكثير من الحكمة والوعي والرقي.
إن استعراض القرآن لقصص الأنبياء بأسلوبه المعجز على طول أحداث حياتهم الرسالية يمثل أبلغ إعلام هادف عنوانه:
1- تحريه العبر والمواعظ والإفادة من تجارب الأنبياء وخبراتهم.
2- استخدامه الأسلوب المباشر الواضح عبّر عن ذلك:
- استعراض مختصر مفيد لتفاصيل القصص القرآني يحقق العبرة منها في أسلوب لا يدخل السآمة إلى قلب سامعها أليست هذه غاية إعلامية وهدف الاستراتيجيات الإعلامية؟
- معلومة مباشرة محددة تخلو من حشو الكلام وزخرفة الألفاظ تخاطب المتلقي خطاباً واضحاً في معالجة المشكلة المطلوب حلها.
ولا مجال هنا لاستعراض أسلوب القرآن الإعلامي إلا أني أحببت أن ألمح إلى سمو المنهج القرآني الإعلامي من جهة، وإلى هدفه الأسمى في إيصال رسالة الحق والخير والقيم إلى الناس كل الناس.
إن إعلاماً مزعوماً نسب نفسه إلى الدين والإيمان زوراً ثم هو خالف جهاراً نهاراً عن سبق إصرار وترصد عدالة التشريعات السماوية وسمو توجيهاتها، ونبل مقاصدها، لهو إعلام منحرف الوجهة، مشوّه المعالم، منغمس في وحول الطائفية المقيتة والمذهبية الضيقة والتحريف الممنهج لوحي السماء القائم على أصول ثابتة كقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)(ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) صدق الله العظيم.
لقد شهدت فسحة الفضاء المفتوح وكذا العالم الافتراضي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي في العقد الماضي انحرافات خطيرة في استخدامات الاعلام كسلاح ماضٍ فعال له تأثير السحر على العامة، وذلك لسهولة الوصول إليه ومخاطبته لكافة شرائح المجتمع على تنوع ميولهم وثقافاتهم.
وكان الإعلام الديني المشار إليه آنفاً واحداً من أهم تلك الأسلحة التي تصدى لترويجها فئاممن مدعي العلم ومحدودي الأفق وأصحاب الأجندات المسبقة، وبيادق على رقعة شطرنج يحركها آخرون إما بشكل مباشر أو عن طريقجهاز تحكم، ولكم أن تتصوروا حجم الهدم الممنهج الذي سيتسببه أولاء القوم في بناء الإسلام الراسخ، ومدى التشويه الذي سيلحقه أولئك في جمال شرائع الله قاطبة؟
أنا سأتصور معكم أيها السادة أيتها السيدات أن الأمة استثمرت هذا الفضاء المفتوح في ترسيخ فكرة جمع الكلمة وتوحيد الصف والتركيز على المشترك ونبذ المفترق، تعالوا لنتصور حجم العداوات التي أسست لها قنوات هدامة فرقت الأمة وشتت أفرادها وشوهت معالم الدين وحرضت الناس بعضها على بعضها تحريضاً شحن النفوس وأزكى نار الإحن فيها فانقلبت عداوات وجرائم وأضرمت نيران الكراهية بين من انتسبوا إلى أصل واحد هو آدم بل بين من انتسبوا لدين واحد في بث طائفية مريضة ومذهبية عقيمة، فعمل كل فريق على تكفير صاحبه ومن ثم أحل دمه تبعاً لما قرره زوراً من إخراجه من الملة.
لقد نالت قنوات فتنوية من الشرائح الأقل تحصيناً من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فحملتهم على ارتكاب حماقات وجهالات من خلال تحريض ممنهج وتجييش فتّان أدى إلى فوضى مجتمعية وويلاتأهلكت الحرث والنسل، ما يومئ إلى ضرورة تصدي المؤسسات الدينية إلى وضع استراتيجيات دقيقة في ضبط الخطاب الديني وتوجيهه ومراقبته حتى لا يهوي بسبب بعض المنتسبين إليه زوراً إلى مهاوي الردى والفتنة والتأويل الباطل كما نرى في زماننا هذا.
ولقد وضح القرآن هذا المعنى، وبين سبيل النجاة من أولئك لما قال: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) (آل عمران: 7).
إن منبر الجمعة وكل منبر دينيهو منبر إعلامي عظيم يشافه الناس بشكل مباشر لا يخضع لمقص رقيب أو رأي مراقب،يحضر إليه الناس بأمر سماوي يسقطون معه واجباً ويبرؤون ذمة، لنتصور أيتها السيدات أيها السادة حجم مسؤولية خطيب الجمعة وهو يتصدى إلى هذه المهمة العظيمة مع ما منح له من دعم وصيغ إعلامية استقطابية ترغب الناس في الحضور.
تعالوا لنتأمل ولنتساءل؟!!
هل ارتقت خطبة الجمعة إلى مستوى ينسجم مع حجم ما أُريد منها أن تحققه في المجتمع من توجيه نحو المكارم والتعاون والسلام المجتمعي والثقافة المحصِّنة للمجتمع بكل شرائحه المدعوّة لحضور يوم الجمعة؟ هل ارتقت إلى خطاب جامع لا يفرق، وبنَّاءٍ لا يقبل الهدم، وراقٍ لا يقبل الانحطاط؟
إننا ننظر بكثير من التأمل والتوقف إلى سنوات ما قبل الأزمة على سبيل المراجعة والتمحيص الدقيق لنتساءل هل أدى إعلامنا عموماً والديني منه خصوصاً دوره المطلوب منه في تقديم إعلام هادف على الوجه المطلوب يحقق الغاية من الإعلام المتمثلة في وعي مجتمعي وثقافة حاضرة وتحصين منيع يحول دون شيوع الفكر الاستهلاكي في المجتمع، أقصد استهلاك الثقافات الوافدة، والمنتجات القادمة من وراء حدودنا، والمعارف المعلبة، وهل ملأ ذلك الإعلام فراغات فكرية كانت تحتاج لمن يملؤها، أم أنه قصر فإذا بالأفكار المنحرفة تجد مرتعها لشغل تلك الفراغات ولملئ تلك الشواغر.
هل استطاع إعلامنا وخصوصاً الديني أن يسد مساحة الفراغ الروحي في مجتمعنا حتى لا يأتي من يملؤه أفكاراً محرفة ونصوصاً مؤولة تأويلاً باطلاً أو أنه في أضعف الأحوال يحشوه آراءً مغلوطة خشبية وفتاوى جامدة أكل عليها الدهر وشرب وتجاوزتها القاعدة الإسلامية الذهبية.
(لا ينكر تغير الفتوى بتغير الأمكنة والأزمنة والظروف والأحوال والعوائد)
لقد تطاولت أزمنة أيها السادة غلب فيها على خطابنا ذلك النمط المشار إليه ما أثر بالضرورة في تشكيل العقلية الإيمانية المحضة ضد عاديات الفكر وغادرات المعرفة كالذي عانينا منه إبان الأزمة التي عصفت ببلادنا.
إن نزول خطبة الجمعة ودروس علمائنا ومواعظ واعظينا إلى شارعنا وتواجدها في سوقنا، وحضورها في منازلنا ومشاركتها لوقائع ومستجدات أزمنتنا هو السبيل الأمثل لتبوء تلك المصادر الإعلامية مكانتها في بث الوعي ومد المجتمعات بحاجتها من ترياق التحصين والثقافة الدينية الممحضة المبنية على كتاب الله العظيم وسنة وقدوة وسيرة نبيّه الكريم ? وسائر رسل الله.
إن تسليط الضوء على قضايا مجتمعنا المعاصرة وقيمه المستهدفة وربط الدين بالمصلحة العامة للوطن وسيادته وأمنه واستقلاله من جهة ومقدراته ومرافقه واقتصاده من جهة ثانية وبأدوات تحصينه ضد أي فكر يخرج عن تاريخ عيشنا المشترك وشراكتنا المقدسة، كل ذلك يمثل أولوية من أولويات عمل المشتغلين في حقل الدعوة إلى الله والعمل الديني والوعظ والارشاد من كل أطيافنا الشرائعية المكونة لنسيجنا الإيماني السوري الكبير.
لقد حرصت وزارة الأوقاف في بلدنا وخلال سني الأزمة على متابعة شأن الخطاب الديني متابعة الغيور على الدين والقيم والوطن، فكان منها أن أهلت القائمين على المنابر وكراسي الدروس تأهيلاً مدروساً من خلال اختيار الأكفاء منهم أولاً ثم إقامة الدورات المتخصصة في معاصرة الخطاب الديني ضمن الثوابت المتفق عليها ثانياً، ثم ترسيخ فكرة حب الوطن الذي هو للجميع وأن النخب على وجه الخصوص مدعوون للذود عن حياض كل من ثغره، وأنهم مسؤولون عن حماية النشء فيه بأدائهم الوسطي المعتدل الذي يقدم الدين كما أنزله الله من فوق سبع سموات ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً. لذلك نجح الخطاب الديني إلى حد في رأب الصدع وتوضيح المفاهيم ورد الافتراءات التي أراد الخارجون عن حقيقة الدين والتاريخ والمنطق أن يلصقوها به.
لقد أثر ظهور التيارات الراديكالية الدينية المتطرفة المتشددة في العقود الماضية على نظرة العالم إلى الإسلام، وأنه دين السفك والقتل والاقصاء، ثم ما لبثت أن طالعنا الخريف العربي بصور أكثر تشدداً من المتأسلمين فإذا بالنظرة ضاق مداها لتشمل أبناء الدين الإسلامي ذاته، الذين أنكروا الدين تبعاً لما عاينوه من دين مخترع لم يستثن حتى أبناء الملة فصار أحدهم يكفّر لذنب اقترفه أو رأي قاله أو موقف تبناه، ولك أن تتصور حجم التشويه الذي ظهر به ذلك الإسلام الحنيف بسبب تنطع من ينسب نفسه إليه.
إن قطع الطريق على أصحاب العقائد الجهادية المزورة الدخيلة على الإسلام دين السلام والحوار والحكمة واحترام الآخر لا يكون بالأماني أو الدعاء الخالي من العمل، وإنما يكون بالعمل على استثمار المنابر الإعلامية الأكثر تأثيراً على الناس، وتقديم الدين من خلالها تقديماً يليق برسالته السماوية ودعوته الأخلاقية وذلك بما يلي:
أولاً: إظهار حقيقة الدين من واقع القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وسيرة صاحبها وسير سائر أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام.
ثانياً: تقديم الدين تقديماً يليق بدعوته الأخلاقية السامية التي نظرت إلى الناس أنهم جميعاً لآدم وأن أخوة إنسانية تجمعهم، ألم يقل رسول الإسلام محمد ? : اللهم رب كل شيء ومليكه أنا شهيد أن الخلق كلهم أخوة.
ثالثاً: معاصرته لقضايا الناس وهمومهم وحاجاتهم خاصة أحكامهم المستجدة منها.
رابعاً: مخاطبته العقول والقلوب في آن معاً.
خامساً: تنقيته من كل ما علق به على مدى قرون من نمطية وجمود بسبب قصور البعض عن فهم معنى تجديد الخطاب الدينيوعالميته وإنسانيته.
    إنه يجب التنبه إلى أن من أخطر ما أنتجته تلك التيارات الدينية المتشددة في أمتنا أنها شتتت الناس في اتجاهات شتى في موقفهم من الدين فهناك فئة أنكرت الدين إنكاراً كاملاً وغيرت وجهة نظرها حياله إلى النقيض، وهناك فئة تسرب الشك إلى قلبها وهي بصدد الحكم على الدين، وهناك فئة سارت مع التيار واتجهت اتجاهه ولعل أكثر ما ظهر ذلك في فئتين:
-    غوغاء جهلة متخلفون
-    أرباب مصالح حققت لهم هذه التيارات مآربهم في التسلط والكسب والمتع.
لك أن تتصور بعداً خطيراً أحدثته هذه التيارات في مجتمعاتنا التي كانت إلى أجل ليس ببعيد تحب الدين وتجد فيه جامعاً بين كل الناس على اختلاف أطيافهم الإيمانية.

        
نائب رئيس فرع جامعة بلاد الشام
في مجمع الشيخ أحمد كفتارو للشؤون العلمية والبحث العلمي