مناطق «خفض التوتر» بعيون غربية: ماذا يدور في ذهن الرئيسين الأسد وبوتين؟

مناطق «خفض التوتر» بعيون غربية: ماذا يدور في ذهن الرئيسين الأسد وبوتين؟

تحليل وآراء

السبت، ٦ مايو ٢٠١٧

 فرنسا – فراس عزيز ديب

يظنونَ أننا نعرف كل شيء، وعندما نسألهم أين المعلومات التي لديكم؟ يجيبون: نحن لا نعلم ما يدور في ذهنِ ثنائية الرئيسين بشار الأسد والروسي فلاديمير بوتين.
بهذه الكلمات البسيطة يعبر دبلوماسي عربي يعمل في عاصمةِ النور تحتفظ بلادهُ بعلاقاتٍ من تحتِ الطاولة مع القيادة السورية، عن حالةِ اللاتوازن التي يتعاطى بها بعض المسؤولين في دولَتي صناعة القرار الأوروبي فرنسا وألمانيا، مع ما جرى من اتفاقٍ في الأستانا، أو ما بات يُعرف باتفاقِ المناطق المنخفضةِ التوتر، ويضيف: من الواضح أنهم أكبر الخاسرين مما جرى، فليست مشكلتهم فقط أنهم كانوا خارج النقاشات والمداولات، لكن الأهم أن ما يتم التحضير له بعد الانتخابات الفرنسية من إعادة إنتاج سياستي الرئيسين الفرنسيين السابق نيكولا ساركوزي والحالي فرانسوا هولاند، ودمجهما معاً للخروج بالنسق السياسي الذي سيتبعه المرشح إيمانويل ماكرون بعد نجاحه في الانتخابات الفرنسية بما يتعلق بملف المنطقة، قد أصيبت بمقتل.
كلام الدبلوماسي العربي كان ناتجاً عن «عتبٍ» تلقاه من أحد الأجهزة الأمنية الأوروبية التي اعتادت أن تتبادل المعلومات مع سفارة دولته في الناحيتين الأمنية والدبلوماسية، لتكتشف في النهاية أنها لم تكن تعلم شيئاً، لكن هل حقاً أن التخوفات الأوروبية في محلها لكونها عملياً أصبحت هامشاً لا وزن ولا مكانة له، أم إن الأوروبيين يعرفون تماماً أن معركتهم الحقيقية هي مع بوتين أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فهو ليس أكثر من مجرد أداة؟
إن الجواب على هذا السؤال سيكون ممره الأساسي هو التعاطي بموضوعيةٍ مع سلبيات وإيجابيات هذا الاتفاق، ولو بدأنا بالإيجابيات فقد يكون الاتفاق فرصة فعلية، إذا ما صدقت نيات التنفيذ، لحقن الدماء السورية، وإيجاد أرضيةٍ لإخراج المدنيين والمسلحين العائدين لحضن الوطن من البيئة المتطرفة التي يحكمها المتطرفون، كذلك الأمر فإن هذا الاتفاق قد يُتيح الفرصة لقوات الجيش العربي السوري للتفرغِ باتجاهِ جبهاتٍ ثانيةٍ ربما تكون أشدَّ أهمية لإعادة إنشاء ممراتٍ آمنةٍ تصل جهات الوطن الأربع تماماً كما جرى عند إعادة وصل القامشلي بحلب.
إن هذا الاتفاق قد يكون أسقطَ ولو جزئياً السعي لما يسمونها «مناطقَ عازلة»، تحديداً أن فرنسا كانت تحمل لواء هذا «الحلم الأردوغاني» في مجلس الأمن قبل أن يتساقط تباعاً بالفيتوات الروسية الصينية المتكررة، لكن النظرة للإيجابيات لا تعني فقط أن نعيشَ أوهاماً ونبني قصوراً من رمالٍ على شاطئ تضربه أمواج الدم وأعاصير المعارك، فالنظرة العاطفية السطحية لكل بنود الاتفاق هي نومٌ في العسل، تحديداً أن هناكَ من أخطأ عملياً بترك المواطن يبحث عن بنود الاتفاق وتداعياتهِ من هنا وهناك، وربما كان الأفضل لو خرجت الدبلوماسية السورية بلقاءٍ أو مؤتمرٍ صحفي مخصص لشرح بنود الاتفاق بدلاً من ترك الأمور لمحللين وباحثين «صوريين» هم أساساً بحاجةٍ لمن يشرح لهم ما يجب شرحه للمواطن.
والآن ما سلبيات الاتفاق، أولاً: ربما كثر الحديث عن أن ما جرى هو عملياً «مناطق آمنة» لكن بتعديل في المصطلحات، تحديداً أن كل دولة استخدمت في تعاطيها مع الحدث مصطلحاً يتوافق مع سياستها تجاه ما يجري، فالأتراك يرونها «مناطق آمنة وفقاً للمطالب التركية» والروس يرونها «مناطق منخفضة التوتر». كل هذا على أهميته قد لا يعنينا كي لا نخوض حرب المصطلحات، تحديداً أن كلا المصطلحين يشتركان بنقطةِ «منع الطيران من التحليق»، لكن الأهم ماذا لو ذهب البعض بعيداً في تطبيق هذا الاتفاق وجعله مستقبلاً بقرارٍ رسمي من مجلس الأمن؛ عندها سنكون أمام خيارين إما أن يتم اعتماد القرار ومن ثم «المناطق الآمنة» أصبحت أمراً واقعاً، وإما أن يصطدم المشروع بالفيتو، عندها سيظهر الروسي تحديداً بمظهرِ المتناقض مع نفسه، فهو الأب الروحي للاتفاق لكنه يرفض اعتماده في مجلس الأمن.
ثانياً: وهي النقطة المتعلقة بالتركي تحديداً، وربما هو أمر نكرره بشكلٍ دائم، لا يمكن للمواطن السوري بأي حالٍ من الأحوال أن يثق باتفاقٍ يكون فيه التركي طرفاً، بمعزلٍ عن الضمانات الروسية أو غيرها، بل إن الأسوأ أن يأتي الاتفاق تحديداً بعد الزيارة التي قام بها رئيس النظام التركي أردوغان إلى موسكو، فيما بدا وكأن الاتفاق هو نتيجة لصفقةٍ ما روسيةٍ تركية، بإيعازٍ أميركي، وهذه الصفقة لا يبدو أنها كلام في الهواء، بل إن الألمان والفرنسيين باتوا ينظرون إليها بعين المتابعة وبمعنى آخر: هم يدركون أنهم خسروا تركيا إلى الأبد، لكنهم الآن بحاجةٍ للخروج بأقل الخسائر لمنع إعادة إنتاج تركيا التي يريدها بوتين، وهم يدركون أن تركيا تحولت الآن من سلاحٍ بيد الأوروبيين كانوا يتعاملون معه من مبدأ العصا و«جزرة الاتحاد الأوروبي»، إلى سلاح ضدهم يتعاطى معه بوتين بطريقة العصا و«الجزرة السورية»، هذه المقاربة لا تفسر لنا فقط سبب الحنق الأوروبي على ماجرى لكنه يعطينا صورة عما يفكرون به تجاه التعاطي مع هذا الاتفاق.
ثالثاً: بدا الاتفاق وكأنه سعي لإنتاج «المعارضة المعتدلة» في المناطق المشمولة به، فمن يرد الذهاب نحو الاعتدال كان بها، ومن يرد التمترس بفكره الإرهابي المتطرف فسيكون هدفاً، ولا يبدو هذا الكلام مقنعاً وما جرى في الغوطة مثال حيٌّ أمامنا، فالمنطق يقول أن يكون دور ميليشيا «جيش الإسلام» هو محاربة التنظيمات الإرهابية الموجودة في المنطقة، لكن وبعد توقيع الاتفاق بساعات أعلن «جيش الإسلام» توقف العمليات ضد جبهة النصرة، فهل هي مصادفة؟ إن التحايل الذي سيمارسه النظام التركي ومعه مشيخات النفط سيفوق كثيراً ما فعلوه منذ عامين مع صدور قرار مجلس الأمن 2170 القاضي بالتعاون لمحاربة تمويل تنظيمي جبهة النصرة وداعش وما تلاه من قرارات تؤكد أن «النصرة» تنظيم إرهابي، كل هذا التحايل كان بهدف منع استهداف التنظيم وهو سيستمر وقضية إنتاج «معارضة مسلحة معتدلة» ستكون المستحيل الثامن في هذا الكوكب.
رابعاً: الأمر يتعلق بالمناطق المشمولة بالاتفاق، فعندما نتحدث عن إدلب مثلاً فنحن نتحدث عن محافظة بمساحات شاسعة يلعب على أراضيها عشرات التنظيمات الإرهابية، أكبرها جبهة النصرة و«حركة أحرار الشام الإسلامية» وفي مناطق كثيرة هناك تداخل بين هذه التنظيمات، والأسوأ أن هذه المدينة تشكل الحديقة الخلفية لطموحات العدالة والتنمية «الطائفية» بعد أن سيطر على ما يريد في الشمال، فهل من المنطقي أننا سننتظر اليوم الذي سيقتنع به من رفع في المدينة شعارات من قبيل «الديمقراطية حرام» لكي يعودوا إلى رشدهم؟
ربما واهم من يعتقد أنه سينجح بذلك، بل هم من سينجحون في إعادة استجماع قواهم بالطريقة التي سيراها النظام التركي مناسبة، وهو ما يريده بموضوع «القوات الضامنة لتحقيق الاتفاق» عندها علينا أن نطرح السؤال التالي: إذا افترضنا مثلاً أن قوات تركية دخلت بموجب الاتفاق باتجاه إدلب، من سيضمن خروجها حتى بعد إخفاق الاتفاق أو نجاحه؟
الأمر ذاته ينطبق على شرط «منع تحليق الطيران» في المناطق المشمولة بالاتفاق، من بينها القنيطرة ودرعا، فهل يعني هذا الكلام أن الطيران الإسرائيلي لن يحلق بعد ذلك هناك؟ ألا يبدو تشميل هذه المنطقة تحديداً مطلباً إسرائيلياً خالصاً لتأمين حزامها الشمالي ومنع المساس به، ثم هل يعني هذا الكلام أن الطيران المعادي لن يحلق بعد اليوم في هذه المناطق ولن يستهدف بأي نوعٍ من السلاح مناطق القوات السورية، أم إن الإسرائيلي لا يسري عليه الاتفاق لأنه ليس من الموقعين عليه؟ عندها سيكون السؤال المنطقي: وهل الولايات المتحدة موقعة؟ فماذا ينتظرنا؟
بنظرةٍ موضوعية، ليس علينا الإفراط في التفاؤل، لأن الاتفاق حكماً لن يأتي بجديدٍ، فـ«الحرامي» لا يمكن له في الوقت ذاته أن يكون «الحامي»، لكنه في كل وقت سيلعب دور المراوغ وهناك للأسف من يصدقه، أما التعاطي مع بعض بنود الاتفاق من باب الاستسهال، فهو تعاطٍ لا معنى له.
جميعنا نبحث عن فرصٍ لحقن دماء الشعب السوري ولكن نتساءل دائماً: لماذا لا تكون هذه الفرص إلا في أوجِ تقدم الجيش العربي السوري على أكثر من جبهة؟ ربما لن يطول الأمر حتى يظهر الجانب المظلم من هذا الاتفاق، وبأقصر الأحوال حتى زيارة أردوغان للبيت الأبيض، وبأبعدها حتى يزور ترامب مملكة آل سعود، عندها سنعلم تماماً أن أردوغان وحده القادر على خداع الجميع ولنعلم وقتها أن الإيجابية الأهم لهذا الاتفاق أن له مدة اختبار لا يبدو أنه سيكملها.