عن ترامب، وخرافة «الدّولة أنا، وأنا الدّولة»

عن ترامب، وخرافة «الدّولة أنا، وأنا الدّولة»

تحليل وآراء

الخميس، ١٣ أبريل ٢٠١٧

هيكليّة اتخاذ القرار في الولايات المتحدة الأميركية شديدة التعقيد وتقوم على أساس فصل الصلاحيّات بين السلطات، ويستحيل فيها نظريّاً انفراد أي شخص، حتى رئيس البلاد، باتخاذ القرارات المصيريّة
دونالد ترامب كان «يتناول الكعك مع الرئيس الصيني» شي جين بينغ، عندما أصدر قرار قصف سوريا، كما قال في مقابلة أخيرة. ايريك ترامب نجل الرئيس يقول إن أيفانكا ترامب التي انكسر قلبها لرؤية صور الأطفال القتلى في خان شيخون أثّرت في والدها، فكان قصف سوريا. ترامب كان يقول قبل الانتخابات بيومين أن «الناتو» مشروع منته وغير ذي صلة، لكنه اليوم يقول إن «الناتو» أداة لا بد منها.

طوال ثلاثة أشهر، منذ تولي الرئيس الأميركي الجديد، وجوقة وسائل إعلام الإمبراطوريّة الأميركيّة ــ المؤيدة منها والمعارضة ــ لا همّ يومياً لها إلا أن تنقل لنا كل همسات الرئيس، وتصريحاته، وإيماءاته، وأقدار رجال القصر المحيطين به، و«تغريداته»، وهفواته، على أساس أن تلك هي سياسة الولايات المتحدة الأميركيّة في العهد الجديد، وأن الرّجل كما لو كان ملكاً (عربياً) مطلق الصلاحيّات.
من لديه إلمام ــ ولو محدود ــ بماهية النّظام السّياسي الأميركي، يعلم تمام العلم أن هيكليّة اتخاذ القرار في الجمهوريّة شديدة التعقيد وتقوم على أساس فصل الصلاحيّات بين السلطات، فيستحيل نظريّاً انفراد أي شخص حتى رئيس البلاد باتخاذ القرارات المصيريّة. وهو اختيار واع مدروس قام به مؤسسو الجمهوريّة الأوائل، وخطّوه في دستور البلاد، لمنع نشوء الديكتاتوريات أو تركيز السلطات في يد القلّة. وحتى لو قبلنا جدلاً مبدأ وجود الدّولة العميقة خلف ستار المؤسسات الرسميّة للجمهوريّة، وسيطرة المجمع العسكري ــ الأمني ــ الصناعي على توجهات الإمبراطوريّة، فإن ذلك يدفع للاعتقاد بخضوع مؤسسة الحكم لتقاطع مصالح ونفوذات ليس سهلاً تجاوزها عند صياغة الاستراتيجيات أو تنفيذ السياسات. بل إن مجرد تعقيد بنية الولايات المتحدة ذاتها كفيل بمنع أي كائن بشري من امتلاك الوقت، قبل القدرة العقليّة، على إدارة شؤون الدّولة الأعظم في تاريخ البشرية بصفة شخصيّة، ودون جيش من المستشارين والوزراء والخبراء ورجال الدولة.
لقد انتهت خرافة لويس السادس عشر «الّدولة أنا، وأنا الّدولة» رسمياً بقيام الجمهوريّة الفرنسيّة في القرن الثامن عشر وفعليّاً بتشكل الدّول البرجوازيّة الحديثة في أوروبا، ولاحقاً بنشوء النظام السياسي في الولايات المتحدة الأميركيّة، ولم يعد شخص الملك أو الرئيس سوى رمز مؤقت يعبّر في النهاية عن تقاطع مصالح تيارات الطبقة المهيمنة في البلاد. وإنّ اختصار الدّولة في شخصه أشبه برمزية العلم الثلاثي الألوان في تمثيل فرنسا مثلاً.
فلماذا إذن هذا التضخيم (المفتعل) لشخص الرئيس الجديد وهو الذي يأتي أصلاً من خلفيّة بيع العقارات وبرامج تلفزيون الواقع، دون أي خلفيّة عسكريّة أو معرفة حقيقيّة بأصول السياسة الخارجيّة أو حتى الاقتصاد؟
لنعد إلى التاريخ القريب! تقول وقائع التاريخ الأميركي المعاصر إن المجمع العسكري ــ الأمني ــ الصناعي الأميركي قد توافق على تولية رئيس ــ غير ذي صلة ــ من خارج الأجواء السياسيّة كما الحال اليوم مع ترامب، وذلك بعدما أبدت إدارة الرئيس الديموقراطي جيمي كارتر، في آخر أيامه نوعاً من تركيز مبالغ به على مسألة حقوق الإنسان، في وقت كانت فيه مؤسسة الاستخبارات الأميركيّة منخرطة في حرب (سريّة) قذرة واسعة النطاق ضد التيارات الشيوعيّة في أميركا اللاتينيّة (في السلفادور وبوليفيا وتشيلي ونيكارغوا والأرجنتين و كولومبيا)، دعماً للسلطات اليمينية الحاكمة وتجنباً لوقوع تلك الدول في فلك موسكو وكوبا ضمن أجواء الحرب الباردة. وهكذا وصل رونالد ريغان، الممثل السابق من الدرجة الثانية، بقدرة قادر إلى المنصب الرمزي الأرفع في البلاد، وضخمت صورته في وسائل الإعلام، لتمرر من خلاله كل سياساتها وأكاذيبها وحروبها السرّية منها والعلنيّة.
أولى تلك الأكاذيب بدأت حتى قبل تولي «الرئيس ــ الممثل» مقاليد السلطة. إذ صدم الرأي العام الأميركي وقتها بتعرض أربع راهبات مسيحيّات أميركيات للاغتصاب والقتل المتعمد على يد القوى الأمنية في السلفادور. كانت عمليّات الاغتصاب والقتل المجاني تمارس كنشاط يومي من قبل القوى الأمنية للسلفادور حينها ضمن الحرب القذرة التي كانت تسلحها وتوجهها وترعاها المخابرات الأميركيّة في ذلك البلد المنكوب، والتي أدت حينها إلى مقتل ما لا يقل عن سبعين ألف شخص في عمليات بشعة نُفذت خارج القانون. لكن جنسيات الضحايا كانت مختلفة هذه المرة، فجلبت اهتمام الرأي العام الأميركي. كان توجه المنظومة حماية حلفائها، حكام السلفادور، من المساءلة، فتفننت في إيجاد المبررات للقتلة، وكان أول ما فعله الرئيس الجديد لدى توليه السلطة، الإعلان عبر السكرتير الأول للجمهوريّة أنّ الراهبات «قتلن في تبادل عرضي لإطلاق النار في العاصمة أو أنهن بادرن بإطلاق النار على حاجز للقوى الأمنية». وعندما تسربت الأنباء لاحقاً عن حدوث مذبحة جماعيّة أخرى مرعبة، في ذات البلد، وعلى يد السلطات اليمينيّة، كان تعليق إدارة ريغان أنه لا يمكن تحديد من يقوم بالعنف فعلاً في ذلك البلد. بل ونُقل عن الرئيس الفخور قوله إنّ «دولة صديقة ــ أي السلفادور ــ تجاهد لمنع تسرب النفوذ الشيوعي إليها، وهو نفوذ لا يستهدف السلفادور فحسب، بل أعتقد أنه يستهدف كل أميركا اللاتينيّة، ولاحقاً أميركا الشماليّة نفسها». وقد مرر الرئيس العتيد كل رغبات الأجهزة الأمنيّة لتصدير السلاح والخبراء إلى السلفادور، واستمرت إدارته في التعتيم على الفظائع وتبرير الأخبار المحدودة المتسربة عنها.
لم يقتصر خضوع ريغان للأجهزة الأمنية على مسألة السلفادور. ففي ذلك العهد أيضاً، أعطى ريغان التصريح للمخابرات الأميركيّة للمشاركة الرسميّة في المؤامرة لإسقاط الحكم اليساري في نيكاراغوا، فأُطلِق ما عرف بقوات الكونترا سيئة السمعة، ولاحقاً قوات نيكارغوا الديمقراطيّة (على نسق قوات سوريا الديموقراطيّة)، ودعمت الطغمة العسكريّة الحاكمة في هندوراس لتصفية وإخفاء مئات من قيادات العمال والمعارضين، وتعاونت مع ربيبتها مخابرات الأرجنتين في تنفيذ انقلاب في بوليفيا سلمت بعده السلطة في تلك البلاد لتجار المخدرات.
كانت المخابرات الأميركيّة وقتها ــ وهذا أمر كُشف لاحقاً بالوثائق الرسميّة ــ أكبر منظم لعمليات تهريب المخدرات من أميركا اللاتينية إلى السوق الأميركية الضخمة، وقد استخدمت عوائد تلك التجارة القذرة في تمويل أنشطة الحرب السرّية في أميركا اللاتينية وغيرها. وقد كان من أول القرارات التي أصدرتها إدارة الرئيس ريغان، إعفاء المخابرات الأميركيّة من التبليغ عن عمليات تهريب المخدرات التي ينفذها عملاء الاستخبارات غير الأميركيين. لكن لمّا تحالف بارون المخدرات الكولومبي بابلو أسكوبار، مع الشيوعيين في بلاده، كُلّف الرئيس (وزوجته) بتمثيل مسرحيّة حرب صليبية ضد المخدرات، ووجهت كل أسلحة الإمبراطوريّة ضد شخص أسكوبار، حتى قتل الرجل لاحقاً، فتوقفت الحملة وعادت كارتيلات المخدرات إلى أعمالها السابقة كأن شيئاً لم يكن ــ هذه المرة بعد تعديل بوصلة تحالفاتها لتمويل المليشيات اليمينية الموالية للسلطات.
الإنجاز الآخر للمنظومة عبر الرئيس ريغان، كان بدوره في إطار الحرب القذرة في أميركا اللاتينية. إذ تبين للقيادة الأميركيّة وقتها أن كسب الحرب الدائرة هناك لن يكتمل دون السيطرة على إدارة الرأي العام بشأن تلك الحرب داخل البلاد، ولذا تم الانتقال من مرحلة البروباغاندا المضادة في الداخل الأميركي إلى مرحلة الانخراط الإيجابي في تشكيل الرأي العام، رغم أن القانون الأميركي يمنع أجهزة الاستخبارات من العمل على التأثير في المواطنين الأميركيين داخل البلاد. وهكذا تم إطلاق مشروع هائل ــ سُمي مشروع الديموقراطيّة ــ بهدف تشكيل وجهات نظر الرأي العام العالمي، أدمجت فيه مؤسسات أميركية تعمل داخل الولايات المتحدة، وقد نفّذ الرئيس تعليمات الأجهزة الأمنية بالكامل من خلال تصريحاته لخدمة برامج التأثير تلك.
الصورة الخارجيّة التي بُنيت لريغان الممثل، كانت لذلك الرئيس القوي، الذي لا يخشى لومة لائم في الدّفاع عن القيم الغربيّة ضد الخطر الشيوعيّ الدّاهم، وهيبة القوانين الأميركيّة، والحريص على حماية المواطنين من آفة المخدرات. أما في الواقع، فإنه كان مجرد حصان ركبته الأجهزة لتحقيق أهدافها وتنفيذ سياساتها المشبوهة في عهد كانت سمته الحقيقية القتل الممنهج والحروب وخداع الرأي العام الأميركي والتعدي على حقوق المواطنين الأميركيين، في عصر ذهبيّ لتجارة تهريب المخدرات.
وما ترامب إلا ريغان جديد، وكل الذي فعله ــ بأمر نفس المنظومة ــ كان أن نقل الحرب السريّة القذرة في سوريا إلى العلن بعدما فشلت في عهد إدارة باراك أوباما، من تحقيق أهدافها الرئيسة من هذه الحرب، وهو مهما بدا ذاتاً متضخمة على التلفزيون، سيبقى، كما كان الرئيس النجم التلفزيوني الآخر: مجرد واجهة أخرى للإمبراطوريّة، تدّورها كيفما تشاء.