متى يتوقّف الغزل الروسي ـ الأميركي؟.. بقلم: د.وفيق إبراهيم

متى يتوقّف الغزل الروسي ـ الأميركي؟.. بقلم: د.وفيق إبراهيم

تحليل وآراء

الجمعة، ١٧ فبراير ٢٠١٧

 احتمالات ولادة تفاهم أميركي روسي عميق لاستيعاب الأزمات الكبرى في العالم بدأت تتراجع؟ وإذا كان التفاؤل الذي ساد العالم في الآونة الأخيرة له مبرّراته النسبية، فإنّ التراجع الحالي عنه لا يبدو شديد الالتباس في ضوء الهجوم الحادّ على احتمالات هذا التقارب، تشنّه فئات سياسية وازنة ومدعومة من طبقات اقتصادية وإعلامية وعسكرية في واشنطن. نجحت في ما يشبه «إقالة» مستشار الأمن القومي الجديد فلين بذريعة إجرائه اتصالات مسبقة بالسفير الروسي في واشنطن، وكان الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب تبنّى بياناً انتخابياً، تعهّد فيه بنسج تحالف مع روسيا ينهي صراعاً تاريخياً بينهما تسمّى الحرب الباردة 1945- 1990 ، واتّسمت بحروب إقليمية بإسناد من الطرفين وصراع على امتلاك الحجر والبشر والأرض والسماء والبحر. فبدا هذا البيان محاولة لبناء تحالف دولي جديد من المفترض أنّ له تعبيراته السياسية والاقتصادية الجديدة وأزماته المختلفة. وما جذب انتباه موسكو إلى هذا البيان هو تحديد «المرشح» ترامب لكلّ من تركيا وألمانيا واليابان وإيران والحلف الأطلسي والمكسيك والصين كأعداء للنظام الاقتصادي الأميركي وتسبّبوا بتراجعه، محدّداً «داعش ومثيلاتها» بالإرهاب الدولي الذي يجب استئصاله، على أساس التحالف الدولي مع روسيا والنظام السوري.
تلقفت موسكو الوعود الترامبية باهتمام شديد ولجمت نفسها عن الدخول في سجالات أميركية حتى استجلاء الموقف الحقيقي لسيد البيت الأبيض. لكنها أرسلت إشارات ترحيبية بالوافد الجديد الذي يعاملها كقوة دولية في حين أنّ سلفه الرئيس باراك أوباما كان يعتبرها «قوة إقليمية» تعادل على المستوى الاقتصادي إمكانات دولة أوروبية متواضعة.
وما أن تسلّم ترامب مقاليد الرئاسة حتى ابتدأ بالتحلل من وعوده معترفاً بأهمية الحلف الأطلسي في الاستراتيجية الأميركية. وكان وصَفه في «مراحل الترشيح» بأنه مجرد «أداة بائدة» من بقايا الحرب الباردة لم تعد أميركا بحاجة إليها، لكلفتها الباهظة على موازنتها.
أما ألمانيا التي كانت منذ شهر فقط، حسب أوصاف ترامب «البلد الذي استفاد من العولمة التجارية على حساب الاقتصاد الأميركي» فأصبحت بعد نجاحه حليفاً له حصّة أساسية في «قلب أميركا».
أما حكايته مع تركيا فغريبة، انتقدها أكثر من مرّة، وعندما رأى بأنها استرسلت في رحلتها الروسية اكتفى باتصال هاتفي برئيسها رجب طيب أردوغان، أعقبه بإرسال مدير مخابراته الجديد بومبينو إلى أنقرة… وبسحر ساحر اشتدّت عزيمة «خليفة المسلمين»، فأعلن عزمه على تحرير مدينة الباب بقوّات زعم أنّها من «الجيش الحرّ» «المزعوم» بدوره، إلى جانب قوات «درع الفرات» محدّداً أهدافه بتحرير منبج والرقة السوريّتين، ومعلناً رغبته بتأسيس منطقة آمنة تتمتّع بحظر جوّي في الشمال السوري مع حظر طيران.
فَمِن أين ورد هذا العزم عند أردوغان؟ وكيف تجرّأ على الخروج عن خطوط تفاهماته السابقة مع الروس؟ ولماذا يتعمّد عرقلة وصول الوفود السوريّة إلى أستانة؟
أمّا جولته الأخيرة إلى ثلاثة بلدان خليجية، فتندرج أيضاً في إطار «سياسة تركية أميركية» للعودة إلى سياسة المحاور والاستمرار في إشعال الأزمات وتدمير دول المنطقة، وأميركا لم تتخلّ اصلاً عن هذه السياسة بعد وصول ترامب.
أمّا اليابان التي حمّلها مسؤولية التراجع الاقتصادي الأميركي، فاستقبل ترامب رئيس وزرائها ساحباً اتهاماته السابقة، ومعتبراً طوكيو صديقة حميمة للبيت الأبيض غير ممكن التخلّي عنها، مداعباً رئيسها بقبضة يده غير مرّة على سبيل التودّد.
ويبدو أنّه تقاضى «الخوّات المطلوبة» من الخليج، فأعاد فتح «صفحات الصداقة» وأحلاف التدمير، متناسياً اللهجة التهديديّة التي وجّهها قبل شهر فقط إلى المملكة السعودية.
وفعل الأمر نفسه مع الصين، حيث وجد أخيراً أنّ معاقبتها مسألة تحتاج إلى إعادة تأسيس «للحلف العالمي حول الاقتصاد الأميركي». وهذا عمل دؤوب يحتاج إلى عمل ووقت، ولا يتطلّب فتح مرحلة احتراب قبل أوانها، فأرسل إشارات ودّ إلى «الصين الموحّدة». وكان قبل شهر دعا إلى «صينين» تحترم الواحدة منهما الأخرى وتتبادلان الاعتراف، محذّراً من احتلال بكين لبحر الصين. لكن بكين لم تصدّقه، وأرسلت «صاروخاً» باليستياً كوريّاً عبر أجواء بحر الصين كرسالة اختبار للنيات الأميركية، فطوي أمر التهديدات بصمت!
مجرّد اعتراض أميركي لم يعادل قوّة صاروخ كيم جونغ أون، حتى أنّ المكسيك لم تبالِ بالجدار الذي ينوي ترامب بناءه على حدودها، ولم يرَ أحد أثر تهديداته ضدّ المكسيك حتى الآن.
وما تجدر الإشارة إليه، هو أنّ روسيا تعرف أنّ الصين تجيد الدفاع عن نفسها، وتعلم أنّ أميركا السياسيّة ستبدّل موقف ترامب من باقي الدول المذكورة والحليفة، لكن ما أزعج موسكو هو موقف سياسة ترامب الجديدة من إيران وسورية وأوكرانيا، لقد بالغ الرئيس الأميركي في استعداء إيران، حتى أنّه أصبح يربطها بالإرهاب أكثر من استهدافه لـ»داعش» والقاعدة، معلناً توجّهه نحو فرض عقوبات جديدة ضدّها، متحضّراً لحلف أميركي إسرائيلي قد يستهدف مراكز إيرانية، وهذا أمر صعب… أو يستعمل إيران «فزّاعة» لتجميع دول الخليج وتركيا مع «إسرائيل» على أساس الانتهاء من قضية فلسطين والاستمرار في الحرب في سورية والعراق واليمن حتى انهيار هذه الدول. وبيعُ السلاح الأميركي «مفتوحٌ»! ولا يمرّ يوم إلّا ويصدر «تصريح ترامبي» معادٍ لإيران يتذرّع مرّة بإطلاق صاروخ تجربة باليستي، ومرة ثانية بدعم الإرهاب وثالثة بتهديد أمن المنطقة.
فهمت موسكو أنّ استهداف إيران هو محاولة أميركية لضرب الدور الروسي في المنطقة العربية، بدليل أنّ إيران في المرحلة الشاهنشاهية كانت مقفلة في وجه الدور الروسي في الشرق الأوسط، لأنّها كانت ولاية أميركية المواصفات، ولم يكن بحر قزوين مفتوحاً لروسيا من الشاطئ الإيراني. أمّا تركيا، فإنّ بوّاباتها البحرية من البحر الأسود ومرمرة وإيجة والبحر المتوسّط، كانت مفتوحة بحماية تركيا، أيّ أنها مراقبة بدقّة لأنّها تابعة للسيادة التركية… ما يعني أنّ نجاح موسكو حالياً بفتح علاقات جيدة مع طهران أدركت مرحلة التحالف، يعني أنّها حطّمت جزءاً كبيراً من حرية حركتها في المنطقة العربية، خصوصاً أنّ الدور الإيراني المنتصر في العراق يمهّد الطريق لعبور روسي آمن نحو سورية والمنطقة العربية، فما الذي فعلته واشنطن لإعاقة هذه الخطة؟ إرضاء تركيا في سورية على حساب السوريّين والأكراد، تجميع الخليجيّين تحت عنوان محبّب عندهم: العداء لإيران! العودة إلى إرسال كتائب من مستشارين عسكريين وقوات نخبة وقاذفات حربية إلى سورية وتشكيل ألوية وكتائب من عشائر عربية توالي الأردن وإعادة إحياء المغفور له أحمد الجربا، وذلك للإمساك بالمنطقة الجنوبية من سورية وصولاً إلى دير الزور والرقة في محاولة لإنشاء كانتونات ومناطق آمنة، تتمّ تعبئتها من مكوّنات عربية وكردية وآشورية وسريانيّة مختلفة تؤسّس لتقسيم سورية وإنهاء دورها المحوري في المشرق!
فكيف يمكن لروسيا أنّ تصدّق خطابات مديح خصّها بها ترامب، فيما ترى أنّ جميع خططه تستهدفها! وحتى يعلم أنها على دراية باهتماماته، قصفت جنوداً أتراكاً كانوا يحاولون اجتياز الخطوط المتفاهم عليها مع دولتهم، ولم يسكت وزير الخارجية لافروف عن الاستهداف الأميركي لإيران، معلناً أنّ هذه السياسة الأميركية «غير بنّاءة»، وأنّ التجربة الصاروخية الإيرانية هي بالستية ولا علاقة لها بالملف النووي.
هناك إذن نقاط عدّة كبرى تؤسّس لعودة الحرب الباردة بين روسيا وأميركا، على رأسها الخلاف في أوكرانيا وتناقض وجهات النظر في سورية والخلاف العميق حول إيران، وكلّها قضايا تصعب التسويات حولها، ويبدو أنّ التراجع الروسي في أيّ منها يؤسّس لعودة روسيا إلى مرحلة 1990 2010. وهذا ما لن تفعله، لأنّها أسّست لوضعيّة جديدة تحتاج إلى جهود أكثر لبناء تحالف مرجعيّ متعدّد الأذرع من شأنه إعادة الاحترام إلى القانون الدولي مع أمم متحدة مستقلة فعلاً، فننتهي من عصر تفرّد «الكاوبوي الأميركي» فيه بشؤون الأرض وسكّانها لمصلحة تعدّدية مرجعيّة تهدّئ الصراعات.
البناء