حين تقول القاهرة: وعز الشرق.. أوله دمشق!.. بقلم: رفعت سيد أحمد

حين تقول القاهرة: وعز الشرق.. أوله دمشق!.. بقلم: رفعت سيد أحمد

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٠ يناير ٢٠١٧

بعد تحرير حلب وبدء انتصار الدولة السورية على الجماعات المسلّحة المدعومة خليجياً وأميركياً، تحتاج علاقات سوريا محيطها العربى، والدولي، إلى مقاربات جديدة، وفي هذه الدراسة، نقترب من العلاقات الأهم في المنطقة، علاقات (الدولتين – المركز)، مصر وسوريا، وحول هذه العلاقات نسجل بعض الهوامش، وهي (هوامش) تبدأ ببيت الشعر الشهير لأمير الشعراء أحمد شوقي الذي قاله في قصيدته الأشهر (دمشق) والذي نصه (جزاكم ذو الجلال بنى دمشق... وعز الشرق أوله دمشق) وكان مطلع القصيدة ذات الخمسة وخمسين بيتاً والتي غنّاها لاحقاً الموسيقار محمّد عبدالوهاب يقول: (سلام من صبا بردى أرق.. ودمع لا يكفكف يا دمشق).

إن ما صاغه شعراً (أحمد شوقى) قبل أكثر من التسعين عاماً عن الارتباط الوجوبى بين (عز الشرق)، و(دمشق)، يكاد ينطبق، واقعاً، على الحال العربى اليوم 2017، فما جرى – ولايزال يجري – لسوريا من تآمر دولي واسع النطاق، منذ ست سنوات كان يستهدف بالأساس (عز هذا الشرق) الذي أثبتت تجارب التاريخ وخبراته الطويلة مع الانتصارات والانكسارات، أن قاعدته الأساس هي (دمشق والقاهرة)، ليس انحيازاً للدولتين (سوريا ومصر) أو تعصّباً قومياً لهما، ولكنها القراءة الصحيحة للتاريخ وتجاربه وللواقع وحقائقه. إن المؤامرة والحرب الدولية التي دارت رحاها على الأرض السورية منذ مارس 2011 كانت ولاتزال تهدّد مصر، وأمنها القومي إذا ما فهم بمعناه الصحيح، معناه الذي يقول أن ما يهدّد سوريا ويدمّرها يهدّد أيضاً مصر ويدمّرها، وأن أمن مصر يبدأ من (غوطة دمشق) وليس أطراف سيناء، وأن عز مصر وسيادتها وكرامتها الوطنية، ترتبط صعوداً وهبوطاً، بعز سوريا وسيادتها وكرامتها الوطنية، هكذا أثبتت تجارب التاريخ البعيد والقريب، ولعل في تأمل الوحدة الكبرى التي ربطت بين الدولتين في عهد الفراعنة زمن أخناتون وصولاً إلى الوحدة المصرية – السورية الأشهر زمن عبدالناصر (22/2/1958 – 28/9/1961) إلى الحرب المسلّحة المشتركة في أكتوبر / تشرين أول 1973 ضدّ المحتل الصهيونى في عهد الرئيسين حافظ الأسد وأنور السادات، وصولاً إلى اليوم (2017) حين وحّد تهديد الإرهاب الدولي والخليجي الملتحف زيفاً بالدين والثورة والمدعوم إسرائيلياً وأمريكياً، بين الدولتين؛ مجدّداً بعد طول فراق، هذه المحطات التاريخية وغيرها مما لم يتّسع المجال لذكره، تقول وبصريح العبارة، أن أمن سوريا وعزّها، هو من أمن مصر وعزّها.

وفي هذا السياق دعونا نؤكّد على الآتي عبر هذه الهوامش:

أولاً : قبل مئات السنين، وفي العهد الفرعونى، تذكر البرديات أن فرعون مصر (أمنحوتب الرابع) والملقّب بـ(أخناتون) أطلق نشيده إلى الإله (آتون) ليحفظ سوريا والبلاد الفينيقية الشامية التي كانت في وحدة سياسية مع مصر، وهو نشيد أقرب إلى أدبيات الأمن القومي بمعناه المعاصر، إذا ما قرأناه بعمق، وجاء في نشيده : [ (فى بلاد سوريا والنوبة، وفى أرض مصر، تضع أيها الإله (آتون)، كل شئ فى مكانه.. أنت الذى يعطى سوريا والنوبة ومصر، كل ما تحتاجه هذه الأراضى.. وبإرادتك أيها الإله آتون، خلقت الأرض والإنسان والحيوان وجميع المخلوقات وخلقت أرض سوريا كما خلقت أرض مصر.. فانعم على سوريا بمثل ما أنعمت على مصر من الخير والأمان)، وإذا ما أضفنا إلى هذا النشيد حقيقة تاريخية مدهشة مفادها أن أخناتون (آمنحوتب الرابع) مولود من أم شامية فينيقية سورية، وأن وحدة سياسية دستورية كاملة كانت تضم البلاد الفرعونية المصرية والبلاد الفينيقية الشامية السورية قبل وأثناء حكم أخناتون فإن هذا يرسّخ فى أذهاننا، حقيقة يريد لها البعض أن ننساها اليوم؛ وهي؛ قدم وعمق، الترابط المصري السوري والذي ترجم عبر الأزمنة على أشكال متنوّعة من العلاقات السياسية والاستراتيجية، وأن هذا الترابط التاريخي منذ أخناتون بات شرطاً ضرورياً لأمن كلا البلدين، بحُكم (الجغرافيا) و(التاريخ)، حتى لو أراد بعض الحُكّام نقيض هذه الوحدة، فإنهم سرعان ما يجبروا – بحكم الحقائق على الأرض – على العودة إلى اللحمة والتماسك وفهم الأمن القومي لكلا البلدين فهماً صحيحاً؛ يقول قانونه الثابت أن لا سلام ولا حرب ولا أمن ولا نهضة حقيقية في هذا الشرق من دون التلاحم المصري السوري، وتعانق أدوار الدولتين.

  ثانياً : إذا ما قفزنا بالتاريخ إلى اللحظة الراهنة، وتأمّلنا المشهد الإقليمى والعالمى جيداً، سنكتشف أن ثمة مؤامرة متكاملة الأركان والأدوار، حيكت لكل من سوريا ومصر خلال السنوات الست الماضية باسم ثورات (الربيع العربي) وقادتها دول لا علاقة لها بـ"الثورات" أو بـ"الربيع"، مثل السعودية وقطر وتركيا وإسرائيل والولايات المتحدة، وغيرها، دول تبحث عن مصالحها بالأساس، والتي رأت أن أهمها، في أجواء هذا الربيع، هو تفكيك الدول المركزية المستقرّة، واستنزاف جيوشها الوطنية، وإعادة صوغ دورها وسياستها بما يتماشى مع مصالح استعمارية جديدة؛ ففي الوقت الذي ابتليت فيه (سوريا) بهذه المؤامرة، وبتكالب المتآمرين عليها وزيادة دعمهم المالي والتسليحي وبـ(الفتاوى) للجماعات المسلحة؛ طيلة ست سنوات دامية، كانت فيها الدولة والجيش العربي السوري والحلفاء (إيران – روسيا وحزب الله وغيرهما) يقاومون بشرف وصمود وبسالة إلى أن انتصروا في حلب وما بعدها، في هذا الوقت... كانت مصر تواجه نفس المؤامرة وإن بأثمان أقل؛ مؤامرة كان يقودها الخليج وتركيا والموساد وواشنطن عبر الإخوان وجماعات الإرهاب في سيناء، واستطاعت الدولة وجيشها أن ينتصرا تكتيكياً عليهم في 30/6/2013، لكن المعركة لاتزال مستمرة.

 إذن هي نفس المؤامرة، ونفس الأعداء الذين يحاربون الدولة السورية في الرقة وحلب وريف دمشق وحمص وعشرات الأماكن هم أنفسهم من حاربوا – ولايزالون – الدولة المصرية في سيناء، وفي الحدود مع ليبيا، وفي القاهرة، وصعيد مصر، والوثائق التي ضُبِطت حديثاً مع هذه التنظيمات في سيناء أكّدت هذا الارتباط التنظيمي بين الجماعات المسلّحة في مصر وسوريا !! .

  ثالثاً: أدركت القيادة المصرية في مرحلة ما بعد 30/6/2013 أن (العدو) الذي يقاتل الدولة السورية هو عينه (العدو) الذي يقاتل الدولة المصرية، ذات الخنادق ونفس الحلفاء والأعداء؛ وإن اختلفت الأسماء فاقتربت القاهرة أكثر من دمشق، إلى الحد الذي قيل فيه أن أكثر من 200 عسكري مصري (أغلبهم ضبّاط متخصّصون) يعملون الآن في مساندة الجيش السوري ضدّ داعش وأخواتها وأن رئيس جهاز المخابرات السوري (اللواء علي مملوك) قد زار مصر خلال الفترة الماضية أكثر من سبع مرات آخرها في (15/12/2016) والتقى بنظيره المصري رئيس المخابرات (اللواء خالد فوزي) وأن المضمون الأساسى لهذه الزيارات كان التنسيق الأمني ضدّ الجماعات المسلّحة، التي اكتشف الطرفان (خاصة القاهرة) أن ثمة تواصلاً تنظيمياً ولوجيستياً وسياسياً بينهما، وأن الدعم الخليجي (تحديداً القطري) والتركي والغربي واحد، وأن خبرة سوريا وحلفائها في مواجهة هذا الإرهاب الدامي خلال ست سنوات مفيد للغاية بالنسبة لمصر، وأن روسيا لعبت دوراً مهماً في التقريب بين القاهرة ودمشق على خلفية التعاون الروسي الاستراتيجي مع كلتا العاصمتين في مواجهة جماعات الإرهاب ومن يدعمها إقليمياً ودولياً.

  رابعاً : لقد بات من المعلوم الآن أن العلاقات المصرية – السورية واجهت خلال سنوات ما سُمي بالربيع العربي وتحديداً في عهد الرئيس الإخوانى (محمّد مرسي) انحساراً وتشويهاً كبيراً إلى خفض مستوى العلاقات الدبلوماسية وطرد السفراء، بل وبالغ (الإخوان المسلمين) في مصر إلى حد قيام رئيسهم في مؤتمر إخواني – سلفي (بالجلباب الأفغاني الشهير) في استاد القاهرة قبل الإطاحة به بـ15 يوماً فقط أي في منتصف يونيو 2013، بإعلان (الجهاد المسلّح) ضدّ سوريا ودعم جماعات الإرهاب هناك التي كان بعضها ينتمي إلى (جماعة الإخوان)، ولولا يقظة الجيش المصري وإعلانه يومها وبصراحة ووعي تاريخيين، رفضه لهذا (الجهاد الإخواني المسلّح) وأنه يرفض التدخّل العسكري في سوريا، ويرفض أي دعم لتلك الجماعات المسلحة؛ لولا هذا الموقف التاريخي للجيش المصري، لكانت العلاقات قد تدهورت أكثر، خاصة لو قُدّر للإخوان المسلمين أن ينجحوا في 30/6/2013 وأن يفرضوا بالقوة على الجيش المصري التدخّل المسلّح لصالح جماعات الإرهاب في سوريا كما فعلت السعودية وقطر وتركيا والدول الأخرى، إلا أن خفض العلاقات الدبلوماسية وطرد السفراء بين الدولتين مثّل صدمة لاتزال آثارها قائمة، صحيح حاول النظام المصري بعد 30/6/2013 امتصاصها ومحاولة تطويقها من خلال زيادة وتيرة التعاون العسكري والمخابراتي واستقبال قرابة نصف مليون لاجئ سوري فرّوا من بلادهم بسبب جماعات الإرهاب المسلح، إلا أن عدم عودة السفير السوري إلى القاهرة والسفير المصري إلى دمشق والاقتصار على أن تكون العلاقات الدبلوماسية بمستوى أقل منه؛ إن هذا في تقديرنا ، خطأ دبلوماسي على مصر أن تبادر بتصحيحه فوراً.

 إن المراقب للعلاقات بين الدولتين يعلم أن ثمة ضغوطاً سعودية وخليجية على مصر تحول دون هذا الأمر، ولكن هذه الضغوط والتي قلَّت وتيرتها هذه الأيام بعد تأزّم العلاقات المصرية مع آل سعود؛ لا ينبغى لها أن تمثّل قيداً على الإرادة المصرية وعلى أمنها القومي الحقيقي، ذلك الأمن الذي يتطلّب فوراً الاعادة الكاملة للعلاقات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية مع سوريا من دون خوف من الغضب السعودي؛ القائم تاريخياً على ابتزاز مصر والضغط على "أعصابها" الاقتصادية لفرض أجندات للفتن والصراعات الإقليمية، تتعارض والمصلحة العروبية العليا لمصر؛ إن الأمن القومي المصري، الذي في مقدمة أولوياته الترابط الاستراتيجي مع سوريا، ينبغي أن تكون له الأولوية عند صانع القرار المصري، وألا يخضع لابتزاز سعودي وخليجي أو دولي، يضرّ بالمصالح العليا للوطن مقابل حفنة دولارات.

  خامساً : إن المرحلة التاريخية التي تمر بها اليوم العلاقات المصرية – السورية، تفرض على صنّاع القرار في كلا البلدين، أن يبادروا، وفوراً بتقوية هذه العلاقات، فالعدو الذي يقاتلهما – كما أشرنا – واحد، والتحديات على الصعد السياسية والاستراتيجية، واحدة، ولا تمتلك كلتا الدولتين، رفاهية التردّد في ردم الصدع أو التأخّر في بناء الجسور الجديدة التي تتّفق ومرحلة ما بعد تحرير حلب، والانتصار المتتالي على إرهابيي سيناء رغم الضحايا والأثمان التي تُدفع يومياً؛ والأمر ليس من قبيل النصيحة العاطفية أو الترنّم بأشعار أحمد شوقى رغم صدقها وروعتها؛ ولكنه أمر الحقيقة، والأمن القومي لكلا البلدين في أبسط معانيه وفي أعقد وأهم مراحله مع إطلالة العام 2017.

 ختاماً .. نعود لنؤكّد أن أمير الشعراء أحمد شوقى في قصيدته سالفة الذكر والتي كتبها عام 1925 بعد احتلال الفرنسيين لدمشق، كان يقصد بالشرق – كما نفهم نحن - (الوطن العربى) بمعناه المعاصر اليوم، وعندما قال (.. وعز الشرق أوله دمشق) فإن على أحفاده من السياسيين العرب، أن يعيدوا صوغ قوله البليغ بأنه عز هذا الوطن العربي وفي قلبه القاهرة وهو عزّ ومجد، لن يتحققا إلا بـ(عزّ دمشق) ومجدها، وهذا ليس فحسب يقين كل الشرفاء في أمتنا، ولكنه أيضاً وبالأساس، يقين التاريخ وحتميته التي لم تخطئ أبداً، وقناعتنا أنها ستتحقّق قريباً بإذن الله!!.

المصدر: الميادين نت